الـصــيــــام
" يا أيها الذين
آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون "
ينادي الله سبحانه المؤمنين ليخبرهم بما
فرضه عليهم من حقوق العبودية . و لو أن الله سبحانه اكتفى بقوله : " كتب عليكم الصيام " لكان ذلك
كافياً للزوم الأمر و وجوبه في أعناق المؤمنين الذين لا يملكون إلا أن يقولوا
سمعنا و اطعنا . و لكن الله سبحانه لطيف كريم ودود , يبين لعباده مع الأمر ما
يتودد به إليهم بما يعلمه من فطرتهم و جبلّـتهم ليحثهم على الطاعة و يخفف عنهم ما
قد يخالطها من مكاره و مشقات .
و أول ما يخبر الله سبحانه عباده المؤمنين
بعد الأمر بالصيام أن التنافس و المسابقة و المغالبة فطرة تهوّن على الناس بذل
الجهد و تحمل المشاق فلتكن في الخير و لتكن في الطاعة و القربات . فقد دخل هذا
المضار من الخير - الصوم - أقوام ممن قبلكم فلا يسبقونكم و تتأخروا عنهم فـقد ادخر
الله لكم مقام خير أمة .
ثم يخبر الله سبحانه عباده أن أوامره و ما
ينهاهم عنه لا تخلو عن مقصد و حكمة و مصلحة و فائدة تتعلق بصلاح العباد و نفعهم و
رفع الفساد عن حياتهم . فالله سبحانه و تعالى غني لا تنفعه طاعة الصالحين و لاتضره
معصية العاصين . فليتحَرّالعباد وجوه المصالح و المنافع في كل ما أمرهم الله به
فليس في الأمر عبث و لا اعتباط بل رعاية المقاصد و الحكم و المصالح .
ثم يخبر الله سبحانه و تعالى عباده
المؤمنين أن لعبادة الصوم هدف و غاية و مقصد يتمثل في اكتساب الصائمين صفة التقوى "
لعلكم تتقون " . و إذا كانت التقوى هي الصفة التي تمثل اليقظة و الحذر و
الإحتراس من التورط في مخالفة مقتضيات الإيمان , فالسؤال الملحّ في هذا المقام :
ما علاقة الصوم بالتقوى و كيف تترسخ هذه الصفة النفسية و كيف يحقق الصوم غايته و
مقصده ؟
إن الصوم لا ينشئ التقوى في القلب بشكل
عفوي تلقائي , فقد ورد في الأثر أنه كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع و العطش
, فلا بد من أن يكون المؤمن على وعي بكيفية تحقيق الصوم
لهدفه و مقاصده حتى لا تفوته الفرصة و تضيع أوقات رمضان .
و قد وجدت فيما ذكره الإمام الغزالي - رحمه
الله - في كتاب " احياء علوم الدين " في ( كتاب رياضة النفس و تهذيب
الأخلاق , من ربع المهلكات ) جواباً عن علاقة الصوم بتحقق صفة التقوى , يحسن
بالمؤمن أن يتأمله و يفهمه و هو يكابد مشقة الصوم . يقول الإمام الغزالي رحمه الله
: الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها
بالرياضة وهي تكلّـف الأفعال الصادرة عنها ابتداء لتصير طبعا انتهاء وهذا من عجيب
العلاقة بين القلب والجوارح أعني النفس والبدن . فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض
أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة - لو خشع قلبه لخشعت
جوارحه - وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب - فالعلم
بالتعلم و الحلم بالتحلم - .
فصفة
التقوى تترشح إلى القلب من ضبط النفس و منعها ما تطلبه و ما تحتاج إليه مع ملاحظة
معنى الخضوع لله في هذا المنع . فعلى الصائم أثناء مكابدته لمشقة الصوم أن يكون
دائم اليقظة و الحذر و دائم الوعي بالباعث على صبره و تجلده و أنه يفعل لا ذلك إلا
طاعة لله و التزاماً بأمره و نهيه ( يدع طعامه و شرابه من أجلي ) . فيرتفع
من تلك الممارسة الحسية لمعنى التقوى أثر إلى القلب . و يقوى هذا الأثر كلما زاد
الوعي بالباعث و الدافع حتى تصير المراقبة و اليقظة صفة نفسية مستقرة لقلب المؤمن
الصائم . و بذلك يصبح المؤمن ممتلكاً لمعيار الأخذ و الترك في كل ما يفعله و يقدم
عليه .
و إذا
لم يلاحظ الصائم هذا المعنى من علاقة امتناعه عن الأكل و الشرب بالإلتزام و الطاعة
و الإنقياد و الخضوع لله تعالى , ضعف الأثر الذي يرتفع إلى القلب و لم ينتج الصوم مقصد
التقوى التي أرادها الله سبحانه جائزة الصائمين .
No comments:
Post a Comment