Friday, 18 July 2014

فـقه مـراتـب الـتـغـيـيــر


فـقـه مــراتــب الــتــغــيــيــر
" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان . "
في هذا الحديث النبوي المشهور بيان لكثير من الأمور التي تتعلق بواجب المسلم في التصدي للمنكر و الوقوف في وجه انتشاره حتى لا يفسد صبغة المجتمع و هويته الإيمانية .
·       و أول ما يلفت النظر في توجيه النبي صلى الله عليه و سلم , أن موقف عدم الإكتراث من انتشار المنكر و تفشيه هو موقف سلبي يقدح في صدق الإيمان . فالمؤمن غيور على حرمات الله و لا يرضى أن يكون اهتمامه بدين الله و حرماته و حدوده أقل من غيرته على شرفه و عرضه و سمعته  أن ينالها التهاون أو التجاهل و الإنتقاص .
·       و المنكر الذي يتوجه المؤمن لتغييره هو الأمر المستعلن الظاهر بمجاهرة و تبجح, و ليس شائعات و ظنون و احتمالات و تأويلات. و المسلم مطالب أن لا يتجسس و لا يدس أنفه فيما لا يعنيه من خصوصيات الناس و ينبغي أن يحمل أمرهم على ما ظهر من حالهم و على حسن الظن ما استطاع.
·       و المنكر الذي يتوجه إليه المؤمن لمحاولة تغييره هو الأمر المجمع على كونه فساداً و حراماً مخالفاً لدين الله بما علم من الدين بالضرورة. أما ما هو محل اجتهاد من الخلافيات التي تتجاذبها الأدلة الظنية و الفرعيات و الآداب أو تقدير المصالح, فلا يجوز إلحاقها بمرتبة المنكر الذي يحاول المؤمن تغييره, بل هي أمور يجب أن تكون مجال تناصح و مناقشة علمية. و المؤمن في هذا مبتلى بالخلاف بين المؤمنين و الذي يجب أن لا يخرجهم عن ما يجب عليهم من سلامة الصدر و الحب في الله و عدم البغي على المخالفين.
·       و الأمر بالتغيير يفيد الوجوب على من تحققت فيه ثلاثة شروط : سلطة مشروعة و قدرة كافيه و معرفة بعواقب و مآلات الأمور.
سلطة مشروعة : فالرجل راع في بيته و يملك سلطة التأديب على أولاده و أهل بيته  بما يراه مناسباً للحال. و الأفراد لا يملكون سلطة على المعتدين على النظام العام من المجرمين القتلة أو اللصوص أو المعتدين على الأعراض, و ينبغي إبلاغ الأمر إلى صاحب السلطة المشروعة ليتولى مهمته في ايقاف المنكر و قمع القائمين به. و محاولة الأفراد وقف و تغيير المنكر فيما وراء الدفاع عن النفس أمر ينطوي على مخاطر و مجازفات. و ادعاء السلطة و النفوذ بغير طريقها المشروع افتئات على الأمة و فتح لطريق واسع من الفتنة.
قدرة كافية : و الأصل في هذا أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. و القدرة اللازمة لإزالة المنكر و تغييره تقدر بقدرها بفهم واقعي حقيقي للأمور و مداها و ترابطها. و الإستطاعة تحكمها سنن التدافع و قوة العصبية الجامعة و مقدار المنعة و ما يملكه القائمون بالتغيير من وسائل حشد الطاقات المكافئة للمنكر الذي يتوجهون لإزالته.
المعرفة بعواقب و مآلات الأمور :فرب محاولة مشروعة لإزالة منكر أدت إلى منكر و شر أكبر. و ذلك حسب طبيعة العصر و مزاج الناس و قدرتهم على تحمل و قبول جرعات من الحق. فالمتصدي للتغيير يجب عليه أن يستوعب الحكمة العملية في قول الله تعالى " و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم " . و كذلك عليه أن يستوعب الحكمةالنبوية في قول النبي صلى الله عليه و سلم " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأعدت بناء الكعبة على قواعد ابراهيم ".
فإذا تحققت هذه الشروط فيمن يتصدى للتغيير و اكتملت الأسباب بما يفيد غلبة الظن بالنجاح في إزالة المنكر , أقدم متوكلاً على الله انتصاراً لدين الله و محافظة على صبغة و هوية المجتمع أن تحيد عن معيار الحق و الباطل أو أن يصيبهاالتشويه و الإتباس . و إذا تخلفت هذه الشروط وجب التوقف عن مباشرة التغيير العملي و الإنتقال إلى مرتبة التغيير باللسان.
·       و التغيير باللسان ليس موجة عابرة من الغضب و التنديد و الإستنكار و الشتم و السب و اللعن . و لكنه بيان يقود إلى التغيير.
1      و أول البيان هو التوضيح للمنكر و أنه مرفوض بمقياس الشرع و أنه يترتب عليه من الظلم و المفاسد ما لا يقبله عاقل غيور على أمته. و أن هذا المنكر ليس مجال اجتهاد أو تأويل سائغ.
2      بناء رأي عام رافض للمنكر و محاصرة فاعليه و نبذهم حتى يشعروا بالعزلة و الغربة و الإنزواء .
3      توضيح جهة المسؤولية الشرعية و القانونية و التي يجب أن تتصدى لتغيير المنكر و إزالته و تشجيعهم و مساعدتهم على القيام بواجبهم.
4      بناء دوائر الدعم و المناصرة و التأييد لإزالة المنكر حتى يتم بناء عصبية كافية تملك من وسائل الضغط و الترغيب و الترهيب ما يجعل مهمة التغيير أسهل و أقرب متناولاً على القائمين بها.
5      معالجة الثغرات التربوية و الثقافية و الإجتماعية التي قد تسبب بعض العواقب السلبية لإزالة المنكر حتى لا تتخذ هذه الثغرات مبرراً لإستمرار المنكر و دوام الباطل.
6      لا بد من تكامل جهود البيان بكافة أشكاله و وسائله من الكلمة المسموعة و المقروءة و المشاهد الحية المؤثرة مستصحبة شروط نجاح العمل الفني من مراعاة الصدق و الإبداع و الواقعية و الإرتباط بثقافة الأمة و مزاجها و عقليتها.
·       و عندما يتعذر البيان بهذه الشروط التي تجعله تمهيداً لإزالة المنكر, و تعرض القائمون على البيان للمحنة و التضييق, وجب على أصحاب البيان أن يحذروا من الإنتكاس عن مهمة إزالة المنكر أو التمهيد لها, فيعمدوا إلى تبريرالمنكر أو تشويه الجهود الرامية إلى إزالته. فصمت كريم أولى من تبرير عقيم يذهب بالمصداقية و يشوه معيار الحق و الصواب.
·       و في ظروف الإستبداد و الطغيان حيث يعظم البلاء على اصحاب البيان. يلجأ المؤمن إلى السكوت مع كراهية القلب و الوعي بأن هذا السكوت لا يعني الرضا و الركون إلى الذين ظلموا, بل هو التربص و الإنتظار لفرصة يمكن فيها البيان. و لو لم يكن الإنكار بالقلب بهذا الوعي المتربص لما سماه النبي صلى الله عليه و سلم تغييراً لأنه مقدمة و قرينة صادقة لكل تغيير قادم.
·       فإذا طال الأمد على السكوت حتى خمدت جمرة الغضب و الغيرة على حرمات الله في قلب المسلم فليسمع حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم : أوحى الله تعالى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية " كذا " . فقال الملك : كيف اخسف بهم و فيهم العابد " فلان " ؟   فقال الله تبارك و تعالى  : به فابدأ , فإنه لم يـتمـعّـر ( يتغير ) وجهه فيّ يوماً قط .

No comments:

Post a Comment