Monday, 21 July 2014

الـعـلـم الـنــافــع


الـعـــلـم الـنـــافـــع
استعاذ النبي صلى الله عليه و سلم من " علم لا ينفع ", و هذا يقودنا إلى السؤال الطبيعي : ما هو العلم النافع؟ و ماهو العلم الذي لا ينفع ؟ و ما هو معيار التمييز بينهما ؟
فالإنسان مجبول على حب المعرفة و كشف ما حجب عنه من أسرار الوجود و حقائق الكون و ذلك منذ أن علّم الله تعالى آدم الأسماء و صار الإنسان بذلك مخلوقاً متميزاً بإمكانيات عقلية و بالقدرة على التعامل مع الرموز و الأسماء و الوصول منها إلى المعاني و الأفكار. و ارتبطت سعادته في الدنيا و الآخرة بالتعامل الصحيح مع فطرته العقلية و امكانياته الفكرية " فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى . و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى ".
حث القرآن الكريم المؤمنين على النظر في ملكوت السموات و على السير في الأرض و سبر أخبار الأمم و أحوال القرون السالفة و على التفكر في آيات الخلق و عجائب الصنع و لطف التدبير. و كل هذا ينسجم مع فطرة الإنسان في التطلع إلى المعرفة و التشوق إلى ارتياد آفاق العلم. و لكن القرآن الكريم لا يحث على المعرفة للإبتهاج بالغرائب و الإستمتاع بالعجائب و إرضاء الفضول, و لكنه يوجه المؤمنين إلى استجلاء العبر و الدروس و اكتساب الحكمة العملية و تصديق الآيات الإيمانية. فيستقيم العقل على منهاج النظر إلى الأدلة و البراهين بعيداً عن الخرافة و اتباع الظنون. و يستقيم القلب على سنن الحكمة العملية و النظر إلى العواقب بعيداً عن الهوى و ما تزينه رعونات الشهوات. وتستقيم الجوارح على سنن العدل بتوجيه عقل رشيد و قلب سليم.
وقد نظر العلماء إلى طريقة القرآن في التعامل مع فطرة التطلع إلى المعرفة و استقرؤوا موارد الحكمة فيها و وصلوا إلى تقرير معيار مفيد للعلم النافع. فقد قرر الإمام الشاطبي في مقدمات كتاب " الموافقات " أن العلم النافع الذي مدحه الله و رسوله هو العلم الذي ينبني عليه عمل. و يتضمن العمل أعمال الجوارح و أعمال القلوب من اعتقاد الحق و محبة الإيمان و أهله و كراهية الباطل و أصحابه.
سئل أحد الصالحين عن أفضل العلم و أفضل العمل فقال: أفضل العلم علم الحال و أفضل العمل حفظ الحال. و معنى هذا أن أفضل العلم هو معرفة ما يتعلق بما يقوم به المرء من أعمال و مهمات و مسؤوليات لتتطابق مع مقتضيات المقاصد الشرعية و الحكمة العملية و السنن الكونية. و أفضل العمل أن يجاهد المرء نفسه ليحفظ ما يقوم به من أعمال على مقتضى مقاصد الشرع و حكمة العقل و سنن الكون. و هو كلام يخرج مع كلام الإمام الشاطبي من مشكاة واحدة.
و مدار الأمر في تحقيق النفع هو توجه الإنسان و قصده, فمن قرأ الأدب – مثلاً – و كان قصده و توجهه ما نقل عن الإمام الشافعي : من تعلم الأدب حسن خلقه و رق طبعه و لان معشره. بالإضافة إلى التمرس بتصاريف البيان و طرق أداء المعاني و الذي يعتبر مقدمة ضرورية لأي مشاركة جادة في بناء ثقافة الأمة و تأكيد هويتها, كان كل ما يقرأ من شعر و نثر و قصة أو أي عمل أدبي آخر, (يعرّف  سيد قطب رحمه الله العمل الأدبي في كتابه " النقد الأدبي " بقوله : العمل الأدبي هو تسجيل تجربة شعورية بلغة موحيه ) , كان كل ما يقرأ علماً نافعاً و مساهمة جادة في التعرف على ثقافات الشعوب و مزاجها و طريقة تصرفها للتعامل معها, ولبناء الجسور على قاعدة المشترك الإنساني, و لبناء ثقافة معاصرة رشيدة.
و من قرأ التاريخ و المذكرات و التراجم كان ما يجده من المتعة أمراً زائداً على معرفة دروس التاريخ و مزاج الشعوب و هوية الأمة و حقيقة أعدائها, فالتاريخ هو الذي ينشئ البصيرة العملية لبناء المستقبل و تجنب العثرات و المطبات التي يقدم التاريخ خلاصة تجاربها لمن كان له قلب و قرأ طالباً للعلم و المعرفة و لا يتوقف عند مجرد المتعة و النشوة أو الوقوف على الأطلال.
و من قرأ في أي مجال من المعرفة و كان توجهه تنمية المهارات و النظر إلى وسائل تحسين الأداء و تحليل الأنظمة الإدارية و التنظيمية و معرفة الكيفيات و التقنيات في كل ما يتصل بالنشاط الإنساني, كان ذلك التوجه مفتاحاً للنفع و الفائدة يستخلص بها المرء الكثير مما لم يكن يتوقعه من الخير. و لعل هذا هو المعنى عندما جاء الأمر الإلهي " إقرأ " بصيغة مطلقة خالية عن أي تحديد ل " ماذا نقرأ " و لكن جاء التحديد الواضح للتوجه و النية و القصد " باسم ربك ". فالتوجه الصالح و القصد الجاد يجعل المعرفة توجهاً نافعاً لإكتساب ما ينشئ العمل و يوجهه للفائدة و الإتقان.
و قد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه " الفوائد " (أن مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، و أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر‏.‏ فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة ، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها‏.‏وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه ، فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره ، وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه‏.‏‏فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه، فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فمن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك‏.‏)
و في هذا العصر فتحت وسائل الإتصال و شبكات التواصل الإلكتروني الباب واسعاً على كثير من المواد المقروءة و المسموعة و المرئية و أغلبها يهدف إلى التسلية و تمضية الوقت و إثارة الفضول و الخوض في خصوصيات الناس بشكل يغلب عليه السطحية و التفاهة بعيداً عن كل ما ينفع في دنيا أو دين. و أصبح من المهم أن يحذر المرء من إضاعة الوقت و أن يستدرج للإهنمام بسفاسف الأمور و التافه من الإهتمامات. و أن يدعو الله تعالى أن يعافيه من العلم الذي لا ينفع و الذي يملأ عقله و فكره بالخسيس من الخواطر و الخيالات.

Friday, 18 July 2014

فـقه مـراتـب الـتـغـيـيــر


فـقـه مــراتــب الــتــغــيــيــر
" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان . "
في هذا الحديث النبوي المشهور بيان لكثير من الأمور التي تتعلق بواجب المسلم في التصدي للمنكر و الوقوف في وجه انتشاره حتى لا يفسد صبغة المجتمع و هويته الإيمانية .
·       و أول ما يلفت النظر في توجيه النبي صلى الله عليه و سلم , أن موقف عدم الإكتراث من انتشار المنكر و تفشيه هو موقف سلبي يقدح في صدق الإيمان . فالمؤمن غيور على حرمات الله و لا يرضى أن يكون اهتمامه بدين الله و حرماته و حدوده أقل من غيرته على شرفه و عرضه و سمعته  أن ينالها التهاون أو التجاهل و الإنتقاص .
·       و المنكر الذي يتوجه المؤمن لتغييره هو الأمر المستعلن الظاهر بمجاهرة و تبجح, و ليس شائعات و ظنون و احتمالات و تأويلات. و المسلم مطالب أن لا يتجسس و لا يدس أنفه فيما لا يعنيه من خصوصيات الناس و ينبغي أن يحمل أمرهم على ما ظهر من حالهم و على حسن الظن ما استطاع.
·       و المنكر الذي يتوجه إليه المؤمن لمحاولة تغييره هو الأمر المجمع على كونه فساداً و حراماً مخالفاً لدين الله بما علم من الدين بالضرورة. أما ما هو محل اجتهاد من الخلافيات التي تتجاذبها الأدلة الظنية و الفرعيات و الآداب أو تقدير المصالح, فلا يجوز إلحاقها بمرتبة المنكر الذي يحاول المؤمن تغييره, بل هي أمور يجب أن تكون مجال تناصح و مناقشة علمية. و المؤمن في هذا مبتلى بالخلاف بين المؤمنين و الذي يجب أن لا يخرجهم عن ما يجب عليهم من سلامة الصدر و الحب في الله و عدم البغي على المخالفين.
·       و الأمر بالتغيير يفيد الوجوب على من تحققت فيه ثلاثة شروط : سلطة مشروعة و قدرة كافيه و معرفة بعواقب و مآلات الأمور.
سلطة مشروعة : فالرجل راع في بيته و يملك سلطة التأديب على أولاده و أهل بيته  بما يراه مناسباً للحال. و الأفراد لا يملكون سلطة على المعتدين على النظام العام من المجرمين القتلة أو اللصوص أو المعتدين على الأعراض, و ينبغي إبلاغ الأمر إلى صاحب السلطة المشروعة ليتولى مهمته في ايقاف المنكر و قمع القائمين به. و محاولة الأفراد وقف و تغيير المنكر فيما وراء الدفاع عن النفس أمر ينطوي على مخاطر و مجازفات. و ادعاء السلطة و النفوذ بغير طريقها المشروع افتئات على الأمة و فتح لطريق واسع من الفتنة.
قدرة كافية : و الأصل في هذا أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. و القدرة اللازمة لإزالة المنكر و تغييره تقدر بقدرها بفهم واقعي حقيقي للأمور و مداها و ترابطها. و الإستطاعة تحكمها سنن التدافع و قوة العصبية الجامعة و مقدار المنعة و ما يملكه القائمون بالتغيير من وسائل حشد الطاقات المكافئة للمنكر الذي يتوجهون لإزالته.
المعرفة بعواقب و مآلات الأمور :فرب محاولة مشروعة لإزالة منكر أدت إلى منكر و شر أكبر. و ذلك حسب طبيعة العصر و مزاج الناس و قدرتهم على تحمل و قبول جرعات من الحق. فالمتصدي للتغيير يجب عليه أن يستوعب الحكمة العملية في قول الله تعالى " و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم " . و كذلك عليه أن يستوعب الحكمةالنبوية في قول النبي صلى الله عليه و سلم " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأعدت بناء الكعبة على قواعد ابراهيم ".
فإذا تحققت هذه الشروط فيمن يتصدى للتغيير و اكتملت الأسباب بما يفيد غلبة الظن بالنجاح في إزالة المنكر , أقدم متوكلاً على الله انتصاراً لدين الله و محافظة على صبغة و هوية المجتمع أن تحيد عن معيار الحق و الباطل أو أن يصيبهاالتشويه و الإتباس . و إذا تخلفت هذه الشروط وجب التوقف عن مباشرة التغيير العملي و الإنتقال إلى مرتبة التغيير باللسان.
·       و التغيير باللسان ليس موجة عابرة من الغضب و التنديد و الإستنكار و الشتم و السب و اللعن . و لكنه بيان يقود إلى التغيير.
1      و أول البيان هو التوضيح للمنكر و أنه مرفوض بمقياس الشرع و أنه يترتب عليه من الظلم و المفاسد ما لا يقبله عاقل غيور على أمته. و أن هذا المنكر ليس مجال اجتهاد أو تأويل سائغ.
2      بناء رأي عام رافض للمنكر و محاصرة فاعليه و نبذهم حتى يشعروا بالعزلة و الغربة و الإنزواء .
3      توضيح جهة المسؤولية الشرعية و القانونية و التي يجب أن تتصدى لتغيير المنكر و إزالته و تشجيعهم و مساعدتهم على القيام بواجبهم.
4      بناء دوائر الدعم و المناصرة و التأييد لإزالة المنكر حتى يتم بناء عصبية كافية تملك من وسائل الضغط و الترغيب و الترهيب ما يجعل مهمة التغيير أسهل و أقرب متناولاً على القائمين بها.
5      معالجة الثغرات التربوية و الثقافية و الإجتماعية التي قد تسبب بعض العواقب السلبية لإزالة المنكر حتى لا تتخذ هذه الثغرات مبرراً لإستمرار المنكر و دوام الباطل.
6      لا بد من تكامل جهود البيان بكافة أشكاله و وسائله من الكلمة المسموعة و المقروءة و المشاهد الحية المؤثرة مستصحبة شروط نجاح العمل الفني من مراعاة الصدق و الإبداع و الواقعية و الإرتباط بثقافة الأمة و مزاجها و عقليتها.
·       و عندما يتعذر البيان بهذه الشروط التي تجعله تمهيداً لإزالة المنكر, و تعرض القائمون على البيان للمحنة و التضييق, وجب على أصحاب البيان أن يحذروا من الإنتكاس عن مهمة إزالة المنكر أو التمهيد لها, فيعمدوا إلى تبريرالمنكر أو تشويه الجهود الرامية إلى إزالته. فصمت كريم أولى من تبرير عقيم يذهب بالمصداقية و يشوه معيار الحق و الصواب.
·       و في ظروف الإستبداد و الطغيان حيث يعظم البلاء على اصحاب البيان. يلجأ المؤمن إلى السكوت مع كراهية القلب و الوعي بأن هذا السكوت لا يعني الرضا و الركون إلى الذين ظلموا, بل هو التربص و الإنتظار لفرصة يمكن فيها البيان. و لو لم يكن الإنكار بالقلب بهذا الوعي المتربص لما سماه النبي صلى الله عليه و سلم تغييراً لأنه مقدمة و قرينة صادقة لكل تغيير قادم.
·       فإذا طال الأمد على السكوت حتى خمدت جمرة الغضب و الغيرة على حرمات الله في قلب المسلم فليسمع حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم : أوحى الله تعالى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية " كذا " . فقال الملك : كيف اخسف بهم و فيهم العابد " فلان " ؟   فقال الله تبارك و تعالى  : به فابدأ , فإنه لم يـتمـعّـر ( يتغير ) وجهه فيّ يوماً قط .

Sunday, 13 July 2014

الـزكــاة


الـزكــاة
من الأمور التي تميز هذا العصر الذي نعيش فيه , ازدياد الفجوة بين الفقراء و الأغنياء و خاصة  في ظل النظام الإقتصادي العالمي الذي تهيمن عليه ثقافة الإستهلاك و المتعة و السرف و الترف.
و ينظر المسلم إلى مجتمعات المسلمين ليسأل نفسه السؤال الفطري الطبيعي: كيف تساهم فريضة الزكاة في تقليل عدد الفقراء و في توزيع ثروة الأمة بشكل يحقق المواساة و التكافل ؟
و يصاب المسلم بالحيرة عندما يعلم أن الفتاوى المنتشرة في موضوع الزكاة تسير في اتجاه لا ينسجم مع الفهم الفطري لتوجيهات الإسلام في تحري العدل في توزيع الثروة و تأمين الحد الضروري من العيش الكريم لمجموع الأمة, حتى أن وصف الإيمان يرتفع إذا اختل تأمين الحد الأدنى . فالرسول صلى الله عليه و سلم يشهد و يقول " و اللهِ لا يؤمن, من بات شبعان و جاره إلى جنبه جائع و هو يعلم " .
فالفتاوى التي تتردد على المنابر و حلقات الوعظ و الإرشاد تؤكد على أن الزكاة لا تجب إلا فيما حال عليه الحول من المال. أما ما يستفيده المرء من المال و يكسبه طول العام إذا أنفقه لا تجب فيه الزكاة بالغاً ما بلغ. فالطبيب و المهندس و المحامي و الإداري و كل أصناف الموظفين و المستخدمين و الخبراء و الوسطاء لا يجب عليهم زكاة فيما استفادوه من رواتب و أجور و تعويضات و مكافآت إلا فيما بقي في حسابهم في آخر الحول . وغالباً ما يكون هذا الباقي أقل من القليل بعد أن استهلكت الدخل الإلتزامات التي لا تنتهي لتلبية متطلبات مستوى المعيشة و الإطار الإجتماعي الذي اختاره المرء لنفسه.
و المسلم لا يستريح إلى هذه الفتاوى لأنها ظاهرة الغرابة عن منطق المواساة و التكافل الذي يمثل روح الإسلام. و لكن المسلم مطالب أن لا يهجم على الفتوى و يتكلم في دين الله بغير علم . و عند البحث في هذا الموضوع الخطير نجد أن من علماء المسلمين الموثوقين من تكفل بمعالجة هذا الأمر و توجيهه بشكل ينسجم مع الفهم المقاصدي لفريضة الزكاة. و ما نفعله هنا هو الإشارة و الدلالة على معالجة نظن فيها الإنسجام و التوافق مع روح الشريعة و منطقها و مقاصدها و بعد ذلك كل مسلم مسؤول عما يأخذ به نفسه.
عالج الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه " فقه الزكاة " موضوع زكاة المال المستفاد في الفصل التاسع في الجزء الأول من الكتاب و انتهى بعد مناقشات و تحليلات مستفيضة إلى النتائج التالية :
1.    الأجور و الرواتب و التعويضات و المكافآت التي يتقاضاها المرء نتيجة عمله في مهنة أو عقد استخدام, هي مال مستفاد تجب فيه الزكاة حين استفادته و لا يشترط فيه الحول.
2.    ليس في اشتراط الحول حديث ثابت مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم و لا سيما في المال المستفاد.
3.    يعتبر الدخل السنوي الإجمالي في حساب النصاب .
4.    تؤخذ الزكاة من صافي الإيراد أو الراتب ليطرح منه الدين و يعفى الحد الأدنى لمعيشته و معيشة من يعول.
و قد عرض الشيخ القرضاوي المحاولة الرائدة للشيخ ولي الله الدهلوي لبيان معنى النصاب الذي يتحدد به حد الغنى و حد الفقر بما ينسجم مع النصوص و يراعي في الوقت نفسه تغيرات الزمان و ما استجد من وسائل الكسب أو ما يعتبر من الحاجات الأصلية التي لا بد منها. و خلاصة مناقشة الشيخ الدهلوي رحمه الله أن النصوص الواردة في بيان مقادير النصاب يمكن إرجاعها كلها عند معرفة الواقع الإقتصادي في عهد النبوة إلى معيار واحد و هو " ما يكفي أدنى بيت من المسلمين سنة ". و هذا المعيار يمكن معرفته بدقة في عصرنا إذ تكفلت الدول و الحكومات ببيان حد الفقر في كل مجتمع. فكل من كان دخله السنوي أقل من حد الفقر المقرر في مجتمع معين فهو فقير لا يدفع الزكاة و يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة ما يكفيه. و كل من زاد دخله السنوي عن حد الفقر في بلده فهو غني تجب عليه الزكاة في المقدار الزائد عن حد الفقر و لا يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة. و لا فرق في تحقيق معنى التكافل و المواساة و الشكر لله تعالى على نعمه, إن دفعت الزكاة المستحقة أقساطاً بإخراج مبلغ عند كل دفعة يقبضها أو أن يدفع المسلم المبلغ المستحق مرة واحدة مع زكاة الأصناف الأخرى من المال أو الدخل عند تمام الحول .
إن موضوع الزكاة واسع متشعب و كذلك أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة و مقادير نصابها, و المسلم الصادق يتحرى لدينه حتى يحقق مقاصد الزكاة من المواساة و التكافل فيدفع ما يجب عليه عن طيب نفس و احتساباً للأجر . و ما أردنا في هذا المقال هو التذكير بطرف من أحكام الزكاة فيما يتعلق بالمال المستفاد و التي غفل عنها كثيرون أو تمسكوا بأقوال ظاهرة التعارض مع روح الإسلام و هديه في المواساة و مراعاة حق الفقير و المسكين .