الـعـــلـم الـنـــافـــع
استعاذ
النبي صلى الله عليه و سلم من " علم لا ينفع ", و هذا يقودنا إلى السؤال
الطبيعي : ما هو العلم النافع؟ و ماهو العلم الذي لا ينفع ؟ و ما هو معيار التمييز
بينهما ؟
فالإنسان
مجبول على حب المعرفة و كشف ما حجب عنه من أسرار الوجود و حقائق الكون و ذلك منذ
أن علّم الله تعالى آدم الأسماء و صار الإنسان بذلك مخلوقاً متميزاً بإمكانيات
عقلية و بالقدرة على التعامل مع الرموز و الأسماء و الوصول منها إلى المعاني و
الأفكار. و ارتبطت سعادته في الدنيا و الآخرة بالتعامل الصحيح مع فطرته العقلية و
امكانياته الفكرية " فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى . و من أعرض عن ذكري
فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى ".
حث
القرآن الكريم المؤمنين على النظر في ملكوت السموات و على السير في الأرض و سبر
أخبار الأمم و أحوال القرون السالفة و على التفكر في آيات الخلق و عجائب الصنع و
لطف التدبير. و كل هذا ينسجم مع فطرة الإنسان في التطلع إلى المعرفة و التشوق إلى ارتياد
آفاق العلم. و لكن القرآن الكريم لا يحث على المعرفة للإبتهاج بالغرائب و الإستمتاع
بالعجائب و إرضاء الفضول, و لكنه يوجه المؤمنين إلى استجلاء العبر و الدروس و
اكتساب الحكمة العملية و تصديق الآيات الإيمانية. فيستقيم العقل على منهاج النظر إلى
الأدلة و البراهين بعيداً عن الخرافة و اتباع الظنون. و يستقيم القلب على سنن
الحكمة العملية و النظر إلى العواقب بعيداً عن الهوى و ما تزينه رعونات الشهوات.
وتستقيم الجوارح على سنن العدل بتوجيه عقل رشيد و قلب سليم.
وقد نظر
العلماء إلى طريقة القرآن في التعامل مع فطرة التطلع إلى المعرفة و استقرؤوا موارد
الحكمة فيها و وصلوا إلى تقرير معيار مفيد للعلم النافع. فقد قرر الإمام الشاطبي
في مقدمات كتاب " الموافقات " أن العلم النافع الذي مدحه الله و رسوله
هو العلم الذي ينبني عليه عمل. و يتضمن العمل أعمال الجوارح و أعمال القلوب
من اعتقاد الحق و محبة الإيمان و أهله و كراهية الباطل و أصحابه.
سئل أحد
الصالحين عن أفضل العلم و أفضل العمل فقال: أفضل العلم علم الحال و أفضل العمل حفظ
الحال. و معنى هذا أن أفضل العلم هو معرفة ما يتعلق بما يقوم به المرء من أعمال و
مهمات و مسؤوليات لتتطابق مع مقتضيات المقاصد الشرعية و الحكمة العملية و السنن
الكونية. و أفضل العمل أن يجاهد المرء نفسه ليحفظ ما يقوم به من أعمال على مقتضى
مقاصد الشرع و حكمة العقل و سنن الكون. و هو كلام يخرج مع كلام الإمام الشاطبي من
مشكاة واحدة.
و مدار الأمر
في تحقيق النفع هو توجه الإنسان و قصده, فمن قرأ الأدب – مثلاً – و كان قصده و
توجهه ما نقل عن الإمام الشافعي : من تعلم الأدب حسن خلقه و رق طبعه و لان معشره.
بالإضافة إلى التمرس بتصاريف البيان و طرق أداء المعاني و الذي يعتبر مقدمة ضرورية
لأي مشاركة جادة في بناء ثقافة الأمة و تأكيد هويتها, كان كل ما يقرأ من شعر و نثر
و قصة أو أي عمل أدبي آخر, (يعرّف سيد قطب
رحمه الله العمل الأدبي في كتابه " النقد الأدبي " بقوله : العمل الأدبي
هو تسجيل تجربة شعورية بلغة موحيه ) , كان كل ما يقرأ علماً نافعاً و مساهمة جادة
في التعرف على ثقافات الشعوب و مزاجها و طريقة تصرفها للتعامل معها, ولبناء الجسور
على قاعدة المشترك الإنساني, و لبناء ثقافة معاصرة رشيدة.
و من قرأ
التاريخ و المذكرات و التراجم كان ما يجده من المتعة أمراً زائداً على معرفة دروس
التاريخ و مزاج الشعوب و هوية الأمة و حقيقة أعدائها, فالتاريخ هو الذي ينشئ
البصيرة العملية لبناء المستقبل و تجنب العثرات و المطبات التي يقدم التاريخ خلاصة
تجاربها لمن كان له قلب و قرأ طالباً للعلم و المعرفة و لا يتوقف عند مجرد المتعة
و النشوة أو الوقوف على الأطلال.
و من قرأ في
أي مجال من المعرفة و كان توجهه تنمية المهارات و النظر إلى وسائل تحسين الأداء و
تحليل الأنظمة الإدارية و التنظيمية و معرفة الكيفيات و التقنيات في كل ما يتصل
بالنشاط الإنساني, كان ذلك التوجه مفتاحاً للنفع و الفائدة يستخلص بها المرء
الكثير مما لم يكن يتوقعه من الخير. و لعل هذا هو المعنى عندما جاء الأمر الإلهي
" إقرأ " بصيغة مطلقة خالية عن أي تحديد ل " ماذا نقرأ " و لكن
جاء التحديد الواضح للتوجه و النية و القصد " باسم ربك ". فالتوجه الصالح
و القصد الجاد يجعل المعرفة توجهاً نافعاً لإكتساب ما ينشئ العمل و يوجهه للفائدة
و الإتقان.
و قد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه "
الفوائد " (أن مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، و أن
الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر.
فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل،
فتستحكم فتصير عادة ، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.وقد خلق
الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه ،
فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي
تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط،
بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به
نفسه وغيره ، وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك فإذا جاء وقت العجن والخبز
تبين له حقيقة طحينه.فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا
يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه
واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه، فالفكر والخواطر والإرادة والهمة
أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فمن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في
سائر أمره إلا كذلك.)
و في هذا
العصر فتحت وسائل الإتصال و شبكات التواصل الإلكتروني الباب واسعاً على كثير من
المواد المقروءة و المسموعة و المرئية و أغلبها يهدف إلى التسلية و تمضية الوقت و
إثارة الفضول و الخوض في خصوصيات الناس بشكل يغلب عليه السطحية و التفاهة بعيداً
عن كل ما ينفع في دنيا أو دين. و أصبح من المهم أن يحذر المرء من إضاعة الوقت و أن
يستدرج للإهنمام بسفاسف الأمور و التافه من الإهتمامات. و أن يدعو الله تعالى أن
يعافيه من العلم الذي لا ينفع و الذي يملأ عقله و فكره بالخسيس من الخواطر و
الخيالات.