الواجبات
الجماعية
قررت
آيات القرآن الكريم أن الإنسان مسؤول و محاسب على أعماله في الدنيا , فلم يخلق
عبثاً و لم يترك سدى :" أيحسب الإنسان أن يترك سدى " " و قفوهم
إنهم مسؤولون "" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره و من يعمل مثقال ذرة شراً
يره ".
و قررت
آيات القرآن الكريم كذلك أن الإنسان يحاسب يوم القيامة محاسبة فردية :
" كل نفس بما كسبت رهينة " " و لا تزر وازرة وزر أخرى " " و
كلهم آتيه يوم القيامة فردا" .
فالإنسان مطالب بالقيام بما فرضه الله عليه من واجبات فردية عينية من القيام
بمصالحه و مصالح من يعول و كذلك تزكية نفسه و ملاحظة دوافعه و بواعثه لتكون رضا
الله و التقرب إليه في أي عمل .
و
بالإضافة إلى التكاليف الفردية العينية , فرض الله تعالى تكاليف و واجبات جماعية
ألزم الأمة بالقيام بها و تحقيقها و هي ما يحقق الكفاية في ضروب المصالح العامة و
المرافق و الخدمات : الدينية منها و الدنيوية سواء بسواء . وجعل الله المسؤولية عن
فروض الكفاية مسؤولية جماعية , فإن قصّرت الأمة في أداء واجباتها الجماعية على وجه
يحقق الكفاية و الندّية و الإستغناء و التفوق , ذاقت الأمة كلها وبال أمرها في الدنيا ضنكاً في
العيش و عسراً و شدّة , أو ذلة و هواناً و تسلطاً للأعداء . و في الآخرة يلحقَ
القادرين و المؤهلين من الأمة اللوم و العقوبة .
فالأمة
جسد واحد إذا اختل منه عضو فلم يقم بوظيفته و دوره , تعرض الجسد كله للوهن و السهر
و الحمى . و الأمة كذلك بنيان واحد إذا فقدت منه لبنة أو اختلت وظيفة جزء منه تعرض
المبنى و ساكنوه لدخول الحشرات و الأوبئة و الغبار أو للإنهيار و الدمار. فالإنسان
هو عضو في جسد و لبنة في بناء يصيبه نتائج خطأ غيره أو تقصيره . " و اتقوا فتنة لا تصيبن
الذين ظلموا منكم خاصّة " .
و لا بد للمؤمن
أن يفهم مجالات التكاليف و ما فرضه الله عليه في خاصة نفسه أو مصالح مجتمعه و أمته
, و لا بد للمؤمن أن يحرص على أن يتلقى التدريب الكافي ليكتسب من المهارات العملية
و العقلية و النفسية ما يمكنه من القيام بواجباته الفردية و الجماعية بما يحقق
الكفاية و الإتقان .
عندما يقع الناس في أزمة و ضيق و عسر أو تقع هزيمة
, ترتفع الأصوات بوجوب التوبة و الرجوع إلى الله . و ينحصر طرح المشكلة في إطار
المعنى الأول للتكاليف في وجهها الفردي من التقصيربالعبادات و التزكية والإخلاص و
يتم تجاهل التفريط في التكاليف الجماعية من تأمين الكفايات و المهارات و أداء
الواجبات لتحصين الأمة من الإعتماد على غيرها في أساسيات حياتها , مما لا يزيد
الأمور إلا تعقيداً و ضياعاً و خبالاً.
فالتوبة و الإخلاص و الإقلاع عن المعاصي و
المخالفات لكل فرد في خاصة نفسه أمر لا بد منه , و لكن حصر المشكلة في كل ما تعاني
منه الأمة في هذا الجانب و الإقتصار عليه هو خلل و بعد عن التوازن و العدل الواجب
في إعطاء كل جانب ما يستحق من الجهد و الإهتمام و التذكير و التنبيه و التناصح .
و في هذا العصر تولت الدولة الحديثة مسؤولية
التكاليف الجماعية من مرافق و خدمات و مصالح عامة , و لم يعد للمبادرات أو
المساهمات الفردية قيمة عملية في ما يحتاج إلى مؤسسات و استثمارات و خطط و رؤية
عامة على مستوى القطر أو المنطقة أو العالم بأسره . و من جهة أخرى أصبح الكلام في
الأمور ذات الطبيعة الجماعية ( في بلاد المسلمين ) يثير حفيظة المسؤولين في الدولة
لأنهم يشعرون أن أي كلام في هذا المجال هو تعريض بتقصيرهم أو إهمالهم أو فسادهم و
سعي في تقويض الثقة بالحكومة و النظام و تأليب للناس و نشر للفتنة .
و يشعر الدعاة و المصلحون الذين يغارون على الأمة
أن يصيبها الضعف و الهوان أنهم يواجهون مشكلة معقدة , فهم لا يرضون بالتوجه الذي
يحصر أسباب الأزمات في خلل يصيب تدين الأفراد . و من جهة أخرى لا يريدون أن يفهم
تنبيههم على بعض جوانب القصور في الأمة و التي تشكل – في نظرهم – سبب الأزمة على
أنه اتهام أو تأليب أو إثارة فتنة .
و أرى أن مما يمكن أن يكون مفيداً في تناول
القضايا ذات الطبيعة العامة مراعاة النقاط التالية :
1. أن يكون
دور الدعاة و المصلحين هو تقرير الحقيقة المؤكدة أن حصر كل أسباب الأزمات في الخلل
يصيب التدين أو نقص الإخلاص هو تفسير غير مقبول شرعاً و عقلاً .
2. و أنه لا
بد – بالإضافة إلى إصلاح تدين الأفراد– من النظر إلى أسباب الأزمات من منطلق يعطي
السنن و القوانين و النظام الكوني الذي وضعه الله سبحانه حظه من الجدية الواجبة في
فهمها و الإلتزام بها .
3. بيان
المقاصد الكلية و القواعد الشرعية العامة التي تتصل بموضوع الأزمة .
4. الإمساك
عن تقرير رأي نهائي قاطع أو الدعوة إلى موقف عملي محدد في المسائل التي تحتاج إلى
استشارة ذوي التأهيل و التخصص في موضوع الأزمة .
5. التنبيه
على أن الإهتمام بالشأن العام هو أمر ضروري و دليل صدق انتماء لأمة الإسلام , فمن
لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .
6. التنبيه
على أن الإهتمام المطلوب ليس هو اللهج و الإطناب في الحديث عن الأزمة أو إشاعة كل
ما يسمع عنها دون تحقق من أهل الخبرة بالموضوع , أو دون وعي بما يؤدي إليه الحديث ,
فكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع .
7. التنبيه
على أن الإهتمام المطلوب بالشأن العام في حده الأدنى هو تنمية المهارات و
الإستعداد النفسي و الروحي و العملي للقيام بما يتطلبه حل الأزمة من مواقف و
تضحيات . فالتمني و أحلام اليقظة لا تصنع عدة حل الأزمات , بل التدريب الواعي لإكتساب
متطلبات و خبرات العطاء .
8. و بعد
ذلك دعوة للمتخصصين في موضوع الأزمة و مجالها أن يتحاوروا في الأسباب و يقترحوا ما
يمكن أن يُـتّـخَـذ من خطوات عملية أو توجهات تساعد على حل الأزمة بمساندة و تأييد
رأي عام مبني على الخبرة و الدراية .
9. و
الإشارة إلى أن تشكيل الجمعيات و المنظمات المدنية المتخصصة في كثير من دول العالم كان الرديف و المعين لما يمكن أن تقوم به الحكومات حيث تتشكل
الرؤية المهنية المتخصصة التي تساعد صانعي القرار السياسي على توجيه السياسة لخدمة
المقاصد التي تتلاءم مع ثقافة الشعوب و مزاجها.
10. عندما لا
يتوفر الجو المناسب من الحرية لمناقشة الموضوعات أو اتخاذ خطوات عملية يتوجس
المستبدون منها و يشعرون أنها تقوض ولاء الناس و خضوعهم . يلتزم الدعاة و المصلحون
بما يستطيعون من البيان و يحرصون كل الحرص على أن لا يكونوا من علماء السلاطين أو ضحية
مناورات الإحتواء و الإبتزاز التي يتقن المستبدون فنونها ليوظفوا الدعاة أبواق
تخدير أو بث الحيرة و الشك و الضياع .
No comments:
Post a Comment