Saturday, 28 June 2014

الــدعــــاء


الـــدعـــــاء

الدعاء مخ العبادة , أي جوهرها و ما يحقق غايتها و مقصدها
و معنى العبادة هو الخضوع و الإستسلام و الطاعة مع كمال المحبة .
فـكيف نفهم الدعاء و كيف نمارسه ليكون محققاً لجوهر العبادة و معناها و غايتها و مقاصدها ؟
فهل الدعاء منحصر في أن نسأل اللهَ ما نريد و نتوسل إليه ليمنّ بالعطاء و الفضل , و نحفظ لذلك الصيغ و العبارات و نردد ما دعا به الصالحون و نحسب أن عباراتهم و كلماتهم و صيغ أدعيتهم هي مدار القبول و الإستجابة ؟ و هل تحقق الصيغ و العبارات و الكلمات بمجرد ترديدها مقصد العبادة و غايتها من الخضوع و الإستسلام و الطاعة مع كمال المحبة ؟
تصفحتُ كتب الأدعية و ما حشد فيها من أدعية و صيغ للدعاء , فوجدت أن السؤال عن كيفية فهم الدعاء و كيفية ممارسته ليحقق معنى العبادة يكاد يكون في الظل من العناية و  الإهتمام , و أنه - لذلك - لا بد أن يوليه الدعاة و العلماء نصيبه الوافر من الشرح و التوضيح و البيان .
ورد في الحديث القدسي أن الله سبحانه و تعالى قال :
يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدِكم .
ياعبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعِمكم .
ياعبادي كلكم عار ٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسُكم .
ففي هذا الحديث يقول الله سبحانه لعباده : تحققوا ضياعكم و شرودكم و ما يصاحبه من خوف و فزع و حيرة و اضطراب و يقين بالهلاك , ثم اطلبوا مني و اسألوني الهداية , فأمنّ عليكم بما سألتم . لأن سؤالكم لم يكن ترديد لسان و لا قول بأفواه و لكنه كان حالة قلب و انكسار المضطر المستغيث .
و يقول الله سبحانه لعباده : تحققوا فقركم و حاجتكم و ضعفكم و ما يصاحب هذا التحقق من انكسار و ضراعة و براءة من القوة و التدبير ثم اسألوني أن أسدّ جوعتكم و أغني قلوبكم , فأمنّ عليكم بالنعم و الفضل لأن سؤالكم فيه تخشع المحتاج و تواضع و انكسار الفقير و ليس ترديد لسان و تفاصح بليغ.
و يقول الله سبحانه لعباده : تحققوا الفضيحة و كشف العيوب و ظهور العجز و الوهن في طبيعتكم و جبلتكم و فطرتكم و يصاحب ذلك من حياء و حرج و خوف و ضراعة و براءة من القوة و الحيلة و التدبير , فأمنّ عليكم بالستر و الصون فلا يرى منكم الناس إلا يكرمونكم و يحبونكم عليه , لأن سؤالكم فيه خضوع العابدين و خشوع و انكسار المتبتلين و تعلق قلوب الخائفين لعار الفضيحة و انكشاف السوءات.
و لو نادى الله سبحانه و تعالى عباده بما يعلمه من صفاتهم و خصائص جبلتهم لطال ما يسرده منها . و لكنه سبحانه و تعالى يقدم في هذا الحديث القدسي نموذجاً يومئ إلى ما وراءه مما يجب على العباد أن يستحضروه و يصبغوا قلوبهم و عقولهم به و هم يتوجهون إلى الله بالسؤال  و الدعاء .
و من هذا التأمل فيما يتضمنه الحديث القدسي , يتبين أن للدعاء شقان و وجهان . و الوجه الأول هو ماذا نطلب و ماذا نريد . و الوجه الثاني و هو الأهم في تحقيق معنى العبادة و الذي يتمثل في الحالة العقلية و القلبية للمؤمن من الخضوع و الخشوع و الخوف و الرجاء و الضعف و الإنكسار. فكل الناس تدعو و تعلم ما تريد من رزق و عافية و شفاء و تيسير أمور و نجاح عاقبة , ويختارون لذلك الصيغ و العبارات و الألفاظ . و لكن الوجه الثاني للدعاء لا بد من التفكر و التأمل فيه فهو المقصد و الهدف و هو الذي يصوغ العقل و القلب  و يحقق جوهر العبادة في حياة المؤمن , و هو الذي يعطي الصيغ الواردة للدعاء قيمتها و فائدتها و تأثيرها , إذا ساعدت على صياغة القلب بالحالة التي يجب أن يكون عليها .
و كذلك يتحرى المؤمن الأوقات الشريفة و الأماكن المخصوصة بالفضل لأنها تساعد على الوصول بالقلب إلى حالة الخضوع و الخشوع و الإقبال على الله . فإذا جاء العبد بحاجته و سأل مسألته بكل ما أمكنه من مؤيدات التذلل و الإفتقار و الخضوع و الإنكسار في المكان و الزمان و الأحوال , كان ذلك أدعى للقبول و أرجى للإجابه .
و يكتمل معنى العبادة في الدعاء إذا علم العبد أن الله سبحانه و تعالى سميع قريب مجيب , لا يرد سائلاً و لا يشغله عن العناية بعبده المتضرع كثرة الداعين و اختلاط الأصوات و اختلاف اللهجات . فإذا بدأ الداعي بذكر الله سبحانه و الثناء عليه بمحامده و صفاته و أسمائه الحسنى , كان ذلك أدعى إلى اكتمال معنى العبادة بتهييج ما يحرك دواعي المحبة من تذكر صاحب الفضل و اللطف و الرحمة و الإحسان .

Monday, 16 June 2014

الـواجـبـات الـجـمـاعـيــــة



الواجبات الجماعية

قررت آيات القرآن الكريم أن الإنسان مسؤول و محاسب على أعماله في الدنيا , فلم يخلق عبثاً و لم يترك سدى :" أيحسب الإنسان أن يترك سدى " " و قفوهم إنهم مسؤولون "" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره و من يعمل مثقال ذرة شراً يره ".
و قررت آيات القرآن الكريم كذلك أن الإنسان يحاسب يوم القيامة محاسبة فردية :
" كل نفس بما كسبت رهينة "  " و لا تزر وازرة وزر أخرى " " و كلهم آتيه يوم القيامة فردا" . فالإنسان مطالب بالقيام بما فرضه الله عليه من واجبات فردية عينية من القيام بمصالحه و مصالح من يعول و كذلك تزكية نفسه و ملاحظة دوافعه و بواعثه لتكون رضا الله و التقرب إليه في أي عمل .
و بالإضافة إلى التكاليف الفردية العينية , فرض الله تعالى تكاليف و واجبات جماعية ألزم الأمة بالقيام بها و تحقيقها و هي ما يحقق الكفاية في ضروب المصالح العامة و المرافق و الخدمات : الدينية منها و الدنيوية سواء بسواء . وجعل الله المسؤولية عن فروض الكفاية مسؤولية جماعية , فإن قصّرت الأمة في أداء واجباتها الجماعية على وجه يحقق الكفاية و الندّية و الإستغناء و التفوق , ذاقت  الأمة كلها وبال أمرها في الدنيا ضنكاً في العيش و عسراً و شدّة , أو ذلة و هواناً و تسلطاً للأعداء . و في الآخرة يلحقَ القادرين و المؤهلين من الأمة اللوم و العقوبة .
فالأمة جسد واحد إذا اختل منه عضو فلم يقم بوظيفته و دوره , تعرض الجسد كله للوهن و السهر و الحمى . و الأمة كذلك بنيان واحد إذا فقدت منه لبنة أو اختلت وظيفة جزء منه تعرض المبنى و ساكنوه لدخول الحشرات و الأوبئة و الغبار أو للإنهيار و الدمار. فالإنسان هو عضو في جسد و لبنة في بناء يصيبه نتائج خطأ غيره أو  تقصيره . " و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصّة " .
و لا بد للمؤمن أن يفهم مجالات التكاليف و ما فرضه الله عليه في خاصة نفسه أو مصالح مجتمعه و أمته , و لا بد للمؤمن أن يحرص على أن يتلقى التدريب الكافي ليكتسب من المهارات العملية و العقلية و النفسية ما يمكنه من القيام بواجباته الفردية و الجماعية بما يحقق الكفاية و الإتقان .
عندما يقع الناس في أزمة و ضيق و عسر أو تقع هزيمة , ترتفع الأصوات بوجوب التوبة و الرجوع إلى الله . و ينحصر طرح المشكلة في إطار المعنى الأول للتكاليف في وجهها الفردي من التقصيربالعبادات و التزكية والإخلاص و يتم تجاهل التفريط في التكاليف الجماعية من تأمين الكفايات و المهارات و أداء الواجبات لتحصين الأمة من الإعتماد على غيرها في أساسيات حياتها , مما لا يزيد الأمور إلا تعقيداً و ضياعاً و خبالاً.
فالتوبة و الإخلاص و الإقلاع عن المعاصي و المخالفات لكل فرد في خاصة نفسه أمر لا بد منه , و لكن حصر المشكلة في كل ما تعاني منه الأمة في هذا الجانب و الإقتصار عليه هو خلل و بعد عن التوازن و العدل الواجب في إعطاء كل جانب ما يستحق من الجهد و الإهتمام و التذكير و التنبيه و التناصح .
و في هذا العصر تولت الدولة الحديثة مسؤولية التكاليف الجماعية من مرافق و خدمات و مصالح عامة , و لم يعد للمبادرات أو المساهمات الفردية قيمة عملية في ما يحتاج إلى مؤسسات و استثمارات و خطط و رؤية عامة على مستوى القطر أو المنطقة أو العالم بأسره . و من جهة أخرى أصبح الكلام في الأمور ذات الطبيعة الجماعية ( في بلاد المسلمين ) يثير حفيظة المسؤولين في الدولة لأنهم يشعرون أن أي كلام في هذا المجال هو تعريض بتقصيرهم أو إهمالهم أو فسادهم و سعي في تقويض الثقة بالحكومة و النظام و تأليب للناس و نشر للفتنة .
و يشعر الدعاة و المصلحون الذين يغارون على الأمة أن يصيبها الضعف و الهوان أنهم يواجهون مشكلة معقدة , فهم لا يرضون بالتوجه الذي يحصر أسباب الأزمات في خلل يصيب تدين الأفراد . و من جهة أخرى لا يريدون أن يفهم تنبيههم على بعض جوانب القصور في الأمة و التي تشكل – في نظرهم – سبب الأزمة على أنه اتهام أو تأليب أو إثارة فتنة .
و أرى أن مما يمكن أن يكون مفيداً في تناول القضايا ذات الطبيعة العامة مراعاة النقاط التالية :
1.     أن يكون دور الدعاة و المصلحين هو تقرير الحقيقة المؤكدة أن حصر كل أسباب الأزمات في الخلل يصيب التدين أو نقص الإخلاص هو تفسير غير مقبول شرعاً و عقلاً .
2.     و أنه لا بد – بالإضافة إلى إصلاح تدين الأفراد– من النظر إلى أسباب الأزمات من منطلق يعطي السنن و القوانين و النظام الكوني الذي وضعه الله سبحانه حظه من الجدية الواجبة في فهمها و الإلتزام بها .
3.     بيان المقاصد الكلية و القواعد الشرعية العامة التي تتصل بموضوع الأزمة .
4.     الإمساك عن تقرير رأي نهائي قاطع أو الدعوة إلى موقف عملي محدد في المسائل التي تحتاج إلى استشارة ذوي التأهيل و التخصص في موضوع الأزمة .
5.     التنبيه على أن الإهتمام بالشأن العام هو أمر ضروري و دليل صدق انتماء لأمة الإسلام , فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .
6.     التنبيه على أن الإهتمام المطلوب ليس هو اللهج و الإطناب في الحديث عن الأزمة أو إشاعة كل ما يسمع عنها دون تحقق من أهل الخبرة بالموضوع , أو دون وعي بما يؤدي إليه الحديث , فكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع .
7.     التنبيه على أن الإهتمام المطلوب بالشأن العام في حده الأدنى هو تنمية المهارات و الإستعداد النفسي و الروحي و العملي للقيام بما يتطلبه حل الأزمة من مواقف و تضحيات . فالتمني و أحلام اليقظة لا تصنع عدة حل الأزمات , بل التدريب الواعي لإكتساب متطلبات و خبرات العطاء .
8.     و بعد ذلك دعوة للمتخصصين في موضوع الأزمة و مجالها أن يتحاوروا في الأسباب و يقترحوا ما يمكن أن يُـتّـخَـذ من خطوات عملية أو توجهات تساعد على حل الأزمة بمساندة و تأييد رأي عام مبني على الخبرة و الدراية .
9.     و الإشارة إلى أن تشكيل الجمعيات و المنظمات المدنية المتخصصة في كثير من دول العالم كان الرديف و المعين لما يمكن أن تقوم به الحكومات حيث تتشكل الرؤية المهنية المتخصصة التي تساعد صانعي القرار السياسي على توجيه السياسة لخدمة المقاصد التي تتلاءم مع ثقافة الشعوب و مزاجها.
10. عندما لا يتوفر الجو المناسب من الحرية لمناقشة الموضوعات أو اتخاذ خطوات عملية يتوجس المستبدون منها و يشعرون أنها تقوض ولاء الناس و خضوعهم . يلتزم الدعاة و المصلحون بما يستطيعون من البيان و يحرصون كل الحرص على أن لا يكونوا من علماء السلاطين أو ضحية مناورات الإحتواء و الإبتزاز التي يتقن المستبدون فنونها ليوظفوا الدعاة أبواق تخدير أو بث الحيرة و الشك و الضياع .

Tuesday, 10 June 2014

الإسـتـخـارة



الإســتـــخـــارة

من الأمور التي يجب أن ينتبه إليها المؤمن , تشويه معنى الإستخارة . فقد جعلتها ممارسات العوام شيئاً يشبه الإستقسام بالأزلام و بديلاً عن الجهد الواجب في التحري للصواب و استشارة أهل الرأي و الخبرة عند القيام بأي عمل . فالإستخارة الواردة عن النبي صلى الله عليه و سلم هي دعاء يلتجأ العبد به إلى مولاه بعد أن بذل الجهد و استفرغ امكانيات معرفة الصواب أو فرص و احتمالات النجاح فيما ينوي أن يعمله , و وصل في ذلك إلى غلبة ظن و قرار . يدعو متبرئاً من الحول و القوة و يقول يارب هذا تقديري و مبلغ علمي فإن كتبت لي النجاح و التوفيق فهو فضلك و عطاؤك و توفيقك , و إن لم يتيسر هذا الأمر فلن تجد مني إلا الرضا بما قسمت و قدّرت فلا اعتراض و لا سخط . فالإستخارة الواردة هي ابتهال لطلب العون و التيسير لما فيه الخير , و هي كذلك دعاء يصوغ القلب و العقل للبراءة من العجب و الكبر عند النجاح و من السخط و القنوط و الخيبة و الإحباط عند الفشل أو تعسر الأمور.
إن التردد في اتخاذ القرار فيما ينوي المرء عمله , و التقصير في السؤال و البحث و الإستشارة , ثمّ  الإنتظار لبناء القرار على منام أو على انشراح صدر ينقدح عند فتح المصحف و الإستبشار بما يظهر من ألفاظ يسر أو وصف نعيم – مما يسمونه استخارة و هو إلى الإستقسام بالأزلام أقرب – يخالف هدي النبوة في الأخذ لكل أمر عدته و استشارة أصحاب الرأي و الخبرة في موضوع ما ينوي من عمل , ثم التوكل على الله بعد العزم و بعد الأخذ بالأسباب . فالأسباب هي محل التوكل و لا  معنى للتوكل إذا فقدت الأسباب.
   " فإذا عزمت فتوكل على الله " فالعزم هو قرار لا تردد فيه و توجه لا التفات معه , بعد استنفاد الوسع و الطاقة في معرفة الصواب و تحريه , و تقدير المصلحة الراجحة بوعي كامل للأولويات و ترتيبها المعتبر . ثم يأتي التوكل ليكون اطمئنان قلب المؤمن مستنداً إلى الإيمان بحفظ الله و عونه و تيسيره و قدره , لا على ما أحكم من أسباب النجاح تعبداً و خضوعاً و تأدباً مع من وضع نظام الكون و ربط النجاح بأسبابه و مقدماته .
و بعد الوصول إلى قرار و تدبر معاني التوكل و شروطه , يستجمع المؤمن قلبه و يردد الدعاء بخشوع و تدبر لما تعنيه كل كلمة فيه ليحلق في معارج الخضوع و التسليم متبرئاً من حوله و قوته , يطلب من الله العون و التوفيق و الرعاية و التسديد :
اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ، ولا أعلم ، وأنت غلام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ( و يسمي حاجته ) هو خير لي في ديني و دنياي و عاقبة أمري فاقدره و يسره لي . و إن كنت تعلم أن هذا الأمر هو شر لي في ديني و دنياي و عاقبة أمري فاصرفه عني و اصرفني عنه و رضّني بما قسمت لي ياأرحم الراحمين .

Monday, 9 June 2014

الـتـــوبــة



الـــتـــوبــــــة
كل ابن آدم خـطّــاء و خير الخطائين التوابون .
في طبيعة الإنسان ضعف وعجز وقصور. و في فطرته تشوّف و تطلّـع و نزوع إلى الكمال. إنه مزيج من قبضة الطين و نفخة الروح . تتجلى نفخة الروح في قلب المؤمن محبة للخير و نية لفعل الخير و اعترافاً بأن الله سبحانه و تعالى هو وحده صاحب الأمر و أن شرعه هو معيار الحق و الصواب . فإذا توجه المؤمن للعمل جاء سعيه مشوباً بما في إنسانيته من ضعف و هشاشة و شهوة و هوى . فما هي إلا خطوات من الغفلة و الشرود حتى تأتي المذكّـِرات و المنبّـهات في مواسم الخير و ساعات التجلي لتعيد المؤمن إلى الطريق ليستأنف العمل باستقامة بعد شرود و بعهد على الطاعة بعد كبوة و ضياع . و التائب من الذنْب كمن لا ذنْب له .
و مثال المؤمن في قصته مع طبيعته المزدوجة كمثل الراكب يسير في الصحراء يبقى مطمئناً أنه سيصل غايته ما دام قادراً على أن  يتعرف على صواب طريقه بالعلامات و الإشارات و المعالم من جبال و أودية و آثار . فإذا اشتبهت العلامات و ضاعت المعالم أصابه الفزع و الإضطراب و أيقن بالهلاك و توقف عن السير فهو لا يدري في أي جهة يسير فكل خطوة في اتجاه خاطئ قد تبعده عن وجهته و مبتغاه . فإذا جاء الدليل الخبير و دل على الطريق رجع الإطمئنان و تحددت الوجهة و تجدد النشاط للسير .
فالتوبة فيها معنى الإدراك للضياع و البعد عن الطريق و ما يصاحب ذلك من الفزع و الإضطراب لتوقع الهلاك .
و التوبة فيها معنى الرجوع و العودة إلى الطريق بعد الشرود و الضياع .
و التوبة هي تحرير لضمير المؤمن من الشعور بالإثم المثبط عن العمل أو الباعث على القنوط .
 و التوبة هي إقرار بالمرجعية و معيارِ الحق و الصواب , و ندم لما فرط من الخطأ , و عهد على الإستقامة , و اعتراف بالضعف و العجز و القصور الذي يجعل العمل يختلط بشيء من الجهل و الهوى و الشهوة , و لكن الطريق هو الطريق و المعيار هو المعيار و الحق أبلج لم يختلط بشيء من الأباطيل .
و أصل التوبة صحة العلم و لا تتصور التوبة ممن صار عنده المنكر معروفاً أو المعروف منكراً . فالله سبحانه وصف المنافقين بأنهم يفسدون في الأرض و يقولون " إنما نحن مصلحون " , " ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون " . و وصف الله سبحانه الكافرين بأنهم الأخسرين أعمالاً لأنهم " ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . فلا توبة لمن انقلبت عنده الموازين و اضطرب المعيار و تشوه المقياس و ضاع الدليل و المرجع .
فالتبرير لما يتورط فيه الإنسان من خطأ أو ظلم لشبهة دليل أو لهوى غالب هو التزوير الذي يحرم المؤمن من التوبة لما يتضمنه التبرير من تشويه للحق و الصواب أو ضياع للمرجعية التي تُـعَرّف الطريق و تحدد السبيل . فكل ابن آدم خـطّـاء , و التبرير يحرم المرء من رؤية خطئه و الإعتراف به فلا يستشعر الضياع عن الصراط و لايحس بالإثم و تقريع الضمير . و التوابون هم خير الناس لأنهم يمتلكون المعيار و هم لا يتوقفون عن المراجعة و التقييم لأعمالهم و خطرات قلوبهم و لا تحملهم تزكية النفس و ادعاء الكمال على تجاوز أو الغفلة عن التسديد و المقاربة و المراجعة و التصحيح .