الـــدعـــــاء
الدعاء
مخ العبادة , أي جوهرها و ما يحقق غايتها و مقصدها
و معنى
العبادة هو الخضوع و الإستسلام و الطاعة مع كمال المحبة .
فـكيف
نفهم الدعاء و كيف نمارسه ليكون محققاً لجوهر العبادة و معناها و غايتها و مقاصدها
؟
فهل
الدعاء منحصر في أن نسأل اللهَ ما نريد و نتوسل إليه ليمنّ بالعطاء و الفضل , و
نحفظ لذلك الصيغ و العبارات و نردد ما دعا به الصالحون و نحسب أن عباراتهم و
كلماتهم و صيغ أدعيتهم هي مدار القبول و الإستجابة ؟ و هل تحقق الصيغ و العبارات و
الكلمات بمجرد ترديدها مقصد العبادة و غايتها من الخضوع و الإستسلام و الطاعة مع
كمال المحبة ؟
تصفحتُ
كتب الأدعية و ما حشد فيها من أدعية و صيغ للدعاء , فوجدت أن السؤال عن كيفية فهم
الدعاء و كيفية ممارسته ليحقق معنى العبادة يكاد يكون في الظل من العناية و الإهتمام , و أنه - لذلك - لا بد أن يوليه
الدعاة و العلماء نصيبه الوافر من الشرح و التوضيح و البيان .
ورد في
الحديث القدسي أن الله سبحانه و تعالى قال :
يا عبادي
كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدِكم .
ياعبادي
كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعِمكم .
ياعبادي
كلكم عار ٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسُكم .
ففي هذا
الحديث يقول الله سبحانه لعباده : تحققوا ضياعكم و شرودكم و ما يصاحبه من خوف و
فزع و حيرة و اضطراب و يقين بالهلاك , ثم اطلبوا مني و اسألوني الهداية , فأمنّ
عليكم بما سألتم .
لأن سؤالكم لم يكن ترديد لسان و لا قول بأفواه و لكنه كان حالة قلب و انكسار المضطر
المستغيث .
و يقول
الله سبحانه لعباده : تحققوا فقركم و حاجتكم و ضعفكم و ما يصاحب هذا التحقق من
انكسار و ضراعة و براءة من القوة و التدبير ثم اسألوني أن أسدّ جوعتكم و أغني
قلوبكم , فأمنّ عليكم بالنعم و الفضل لأن سؤالكم فيه تخشع المحتاج و تواضع و
انكسار الفقير و ليس ترديد لسان و تفاصح بليغ.
و يقول
الله سبحانه لعباده : تحققوا الفضيحة و كشف العيوب و ظهور العجز و الوهن في
طبيعتكم و جبلتكم و فطرتكم و يصاحب ذلك من حياء و حرج و خوف و ضراعة و براءة من
القوة و الحيلة و التدبير , فأمنّ عليكم بالستر و الصون فلا يرى منكم الناس إلا
يكرمونكم و يحبونكم عليه , لأن سؤالكم فيه خضوع العابدين و خشوع و انكسار
المتبتلين و تعلق قلوب الخائفين لعار الفضيحة و انكشاف السوءات.
و لو
نادى الله سبحانه و تعالى عباده بما يعلمه من صفاتهم و خصائص جبلتهم لطال ما يسرده
منها . و لكنه سبحانه و تعالى يقدم في هذا الحديث القدسي نموذجاً يومئ إلى ما وراءه
مما يجب على العباد أن يستحضروه و يصبغوا قلوبهم و عقولهم به و هم يتوجهون إلى
الله بالسؤال و الدعاء .
و من هذا
التأمل فيما يتضمنه الحديث القدسي , يتبين أن للدعاء شقان و وجهان . و الوجه الأول
هو ماذا نطلب و ماذا نريد . و الوجه الثاني و هو الأهم في تحقيق معنى العبادة و
الذي يتمثل في الحالة العقلية و القلبية للمؤمن من الخضوع و الخشوع و الخوف و
الرجاء و الضعف و الإنكسار. فكل الناس تدعو و تعلم ما تريد من رزق و عافية و شفاء
و تيسير أمور و نجاح عاقبة , ويختارون لذلك الصيغ و العبارات و الألفاظ . و لكن الوجه
الثاني للدعاء لا بد من التفكر و التأمل فيه فهو المقصد و الهدف و هو الذي يصوغ
العقل و القلب و يحقق جوهر العبادة في
حياة المؤمن , و هو الذي يعطي الصيغ الواردة للدعاء قيمتها و فائدتها و تأثيرها , إذا ساعدت على صياغة القلب بالحالة التي يجب أن يكون عليها .
و كذلك
يتحرى المؤمن الأوقات الشريفة و الأماكن المخصوصة بالفضل لأنها تساعد على الوصول
بالقلب إلى حالة الخضوع و الخشوع و الإقبال على الله . فإذا جاء العبد بحاجته و
سأل مسألته بكل ما أمكنه من مؤيدات التذلل و الإفتقار و الخضوع و الإنكسار في
المكان و الزمان و الأحوال , كان ذلك أدعى للقبول و أرجى للإجابه .
و يكتمل
معنى العبادة في الدعاء إذا علم العبد أن الله سبحانه و تعالى سميع قريب مجيب , لا
يرد سائلاً و لا يشغله عن العناية بعبده المتضرع كثرة الداعين و اختلاط الأصوات و
اختلاف اللهجات . فإذا بدأ الداعي بذكر الله سبحانه و الثناء عليه بمحامده و صفاته
و أسمائه الحسنى , كان ذلك أدعى إلى اكتمال معنى العبادة بتهييج ما يحرك دواعي
المحبة من تذكر صاحب الفضل و اللطف و الرحمة و الإحسان .