التـــوحــــيـد
التوحيد هو المفهوم المركزي في التصور
الإسلامي عن الكون و الوجود . و لا بد من دوام التفكير في شرحه و تبسيطه و عرضه
ليكون من الوضوح و امكانية الفهم المباشر بشكل لا يترك مجالاً للشرك – وهو المفهوم
المضاد للتوحيد – ليتسرب إلى قلوب المؤمنين و يفسد عليهم نقاء ايمانهم و صفاء
رؤيتهم .
يعيش الإنسان في هذه الحياة و تمر به مواقف
و تجارب و مشاعر و عواطف , و يتعرض لظواهر في الكون و نماذج من سلوك البشر . و
المؤمن بالتوحيد لا يرى في كل ما يتعرض له إلا الله سبحانه و تعالى فاعلاً و مؤثراً
و متجلياً في الوجود بأحد أسمائه الحسنى و صفاته أو مجموعة منها , فلا ينسب الفعل
في كل ما يراه و يعانيه إلى الأسباب و ما جعله الله سبحانه وسائل و كيفيات لتجلي
القدرة , بل ينسب الفعل إلى الله و يكون همه و ما يشغله هو كيف يستجيب لفعل الله و
كيف يتأدب بالأدب الواجب لتجلي الأسماء و الصفات في قلبه و عقله و جوارحه . أما
الذي يتعرض للمؤثرات و التجارب و تمر به ظواهر الكون فلا يرى إلا السبب المباشر
فيقف عنده و لا يفكر في خالق الأسباب و جاعل الأمور على ما خصّصها به , فهو مبتلى
بالشرك على درجات و مراتب قد تصل به إلى الكفر و الإلحاد عندما ينكر الصانع و
يدّعي تأثيراً ذاتياً في ما يراه من مظاهر و ظواهر .
فالمؤمن مستغرَق بالرؤية الكلية للوجود , و
التوحيد بالنسبة إليه طريقة فهم و إدراك و منهج استجابة و تفاعل . فالله سبحانه و
تعالى هو في مركز هذه الرؤية و طريقة الفهم و منهج الإستجابة . و المشرك منحصر في
الرؤية الجزئية لا يرى إلا السبب المباشر و لا يستجيب إلا في إطار ذاته و نفسه و
هواه .
فالتوحيد و الشرك منهجان متقابلان في فهم
الكون و التفاعل معه .
أخرج الحاكم في " المستدرك " أن
رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الشرك أخفى على أمتي من دبيب النمل على
الصفا في الليلة الظلماء , و أدناه أن تحب على شيء من الجور أو تكره على شيء من
العدل .
و في هذا الحديث يصل مدى ما يشمله مفهوم
التوحيد أو الشرك إلى خفقة القلب و ميله بشيء من الحب أو الكره استجابة لموقف
تعامل و تبادل . فمن كانت استجابته لمحاباة ظالمة من قريب أو صديق أن يزداد محبة
للقريب و الصديق على ما حاباه و خصّه من حقوق غيره بغير وجه حق , فهذه الإستجابة
تنطلق من الأنا و النفس و ما تهواه , و لا تعبأ بمقياس الحق و العدل أن يجنح أو
يميل . و من كانت استجابته أن يجد في نفسه بعض الكراهية أو الغضب و الغيظ لأن
صديقه أو قريبه عامله بالعدل و القسط و لم يزد له في حقه و لم يحابه لما يظنه من
الدالّة عليه , فهذه الإستجابة كذلك تنطلق من الأنا و النفس و لا تعبأ بميزان الحق
و العدل أن يجنح أو يميل . فالمؤمن تنضبط مشاعره بما وافق الحق و العدل و لا يجد
في قلبه عند ذلك إلا الرضا و الإذعان . و يبدأ الشرك يتسلل إلى القلب عندما يبدأ
دبيب تفضيل الأنا و المنفعة و المصلحة من حيث لا يعلم . و ليس ينجيه من هذا الشرك
الخفي إلا اليقظة و الإستغفار . فيدعو ربه ويقول : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك
شيئاً أعلمه و أستغفرك لما لا أعلمه .
أخرج البخاري أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة
، فلما انصرف أقبل على الناس ، فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله
أعلم ، قال : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله
ورحمته ، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب ، وأما من قال : بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي
ومؤمن بالكوكب "
و في هذا الحديث
يعرض النبي صلى الله عليه و سلم مثالاً آخر لتجربة و موقف يمر بالناس و تختلف ردود
أفعالهم و استجاباتهم على نموذجين اثنين هما التوحيد و الشرك . فالمطر ظاهرة
طبيعية لها أسباب و شروط جعلها الله سبحانه قرينة و علامة على نزول المطر .
فالمؤمن يستجيب لكل ما يراه و يعاينه بتذكر الحقيقة الكبرى أن الله سبحانه و تعالى
هو الفاعل المؤثر و هو الخالق الرازق , ثم يصوغ عقله و قلبه بما يتوافق مع الحقيقة
الكبرى و ما تقتضيه و تستلزمه , ثم لا يكون من جوارحه إلا أن تستجيب بما يقتضيه
الفضل و الرحمة من الشكر و الخضوع و الإمتنان . أما الكافر الجاحد فلا يرى في نزول
المطر إلا الأسباب القريبة و العلامات و الأمارات فيقف عندها معزولاً عن الحقيقة
الكبرى و ما يجب لها , و يتسلل إلى قلبه غرور الإستحقاق و تطاول الأنا و لي و عندي
بكل ما تحمله من جحود و كنود .
و المؤمن لا
يغفل عن الأسباب و العلامات و القرائن و يعلم أنها جزء من النظام الذي وضعه الله
سبحانه و قدّره في ملكه , فيتعامل معها بجدية و لا يتجاهلها أو يتجاوزها فذلك
بالنسبة إلى المؤمن سوء أدب مع مالك الملك و مسبب الأسباب . و قد ذكر الإمام القرافي في كتابه " الفروق " قاعدة في
الدعاء المحرَم فقال :
يجب على كل عاقل أن يفهم عوائد الله
تعالى في خلقه و ربطه المسببات بالأسباب في الدنيا و الآخرة . فإذا سأل الداعي من
الله تعالى تغيير مملكته و نقض نظامه و سلوك غير عوائده في ملكه كان مسيئاً الأدب
عليه عزَ و جلَ .
و كذلك قرر الإمام الشاطبي في كتابه
" الموافقات " ما أسماه القانون العظيم فقال :
جعل الله نتائج الاعمال تجري عادة على وزان
الأسباب في الإستقامة و الإعوجاج. فمن التفت إلى المسبَبَات [النتائج] من حيث كانت علامة على الأسباب في
الصحة أو الفساد - لا من جهة أخرى - فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب
على وزان ما شرع أو على خلاف ذلك .
فالمؤمن مبتلىً بأن يضبط عقله و قلبه بما
يستدعيه التوحيد من فهم و خضوع , و مبتلىً في ذات الوقت بأن يتعامل مع الأسباب
بجدية و لا يفرط في شيء منها و لا يتألى على الله طالباً ما يحب من استقامة النتائج
مع التقصير في ما كُـلّف به من إعداد و استعداد .
لقد عانى المسلمون من تداعيات الخروج عن
التوازن في قضية التوحيد مع اعتبار الأسباب ,
و في قضية إثبات طلاقة المشيئة الإلهية مع ثبات السنن , و تسرب إليهم العجز
و الكسل و التفريط نتيجة الوهم بأن التوحيد يستدعي موقفاً متردداً من الخضوع و
التدين بما وضع الله من أسباب و ما بثّـه من سنن . و لا بد من إعادة التوازن و
معالجة التفريط .
و قد سن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم
الأذكار و الأوراد يرددها العبد المؤمن صباح مساء و عند كل عمل يقدم عليه أو موقف
يمر به . و كل هذه الأدعية و الأوراد و الأذكار تدور حول ربط قلب العبد بالله و
التبرؤِ من الحول و القوة و طلب العون و الرشاد و التسديد من الله الذي بيده كل
شيء . يفعل هذا و هو في سعي و عمل و جهاد و دأب يستفرغ وسعه و طاقته في فهم ما
يلزمه فهمه من سنن و قوانين و أسباب و مقدمات ما يقوم به من عمل , يلتزم
بمقتضياتها و يتأدب مع مالك الملك فيما وضع من سنن التسخير و أسباب قضاء الحوائج .
فالأذكار و الأوراد – عند فهمها و تمثل معانيها – هي التي تربط القلب بمعنى
التوحيد و تعيد التوازن إلى المؤمن وهو يكابد و يسعى و تستنقذ قلبه من الإستغراق
مع عالم الأسباب بما ينسيه الحقيقة الكبرى في الوجود و واجبه نحوها في الخضوع و
الإستسلام .
اللهم اجعلنا من الموحدين الشاكرين الحامدين
ReplyDelete