Saturday, 10 May 2014

الـصـبــــــر


الــصـــــبــر

الصبر هو الخلق الذي يتواصى به الناس في الشدائد و مواقف المواساة رجاء أن ينالهم الوعد الإلهي الذي لا يتخلف " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " .

و أكثر الناس يتصورون الصبر هو الخيار الذي يلجأ إليه العبد الضعيف الذي لا حيلة له إلا أن ينسحب من دائرة الفعل و التأثير, و يوطن نفسه على مزيد من الإحتمال و الرضا و الكف عن الشكوى. و إذا كان هذا المعنى صحيحاً معتبراً عندما تكون الشدائد ابتلاءات إلهية لا حيلة للإنسان في دفعها كالزلازل و الفيضانات و الكوارث و مصائب النفس و المال, فإن حصر معنى الصبر في هذا الإطار و الإقتصار على هذا الجانب في التذكير و التواصي يحرم المؤمنين من خير عظيم تضمنته المعاني الأخرى للصبر و التي كانت معظم ما أشارت إليه آيات الصبر في القرآن الكريم .

·        عند استعراض آيات الصبر في القرآن الكريم و ملاحظة سياقها الذي وردت فيه نجد أن الصبر يحمل معنى القوة في الحق و الصلابة في التمسك به و الثبات على المبدأ في مواجهة ضغوط أهل الباطل و أذاهم و عربدتهم بما يملكون من قوة و نفوذ. و يسجل التاريخ أن هؤلاء الصابرين المتمسكين بالحق لم ينسحبوا من دائرة الفعل و التأثير بل هم الذين غيروا وجه الأرض عندما كشف ثباتُهم زيفَ الباطل و تفاهة منطقه و هشاشة قوته و هيلمانه.

" و لقد كُـذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُـذبوا و أوذوا حتى أتاهم نصرنا "

" فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل "

" فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك "

" و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون "

" لتبلون في أنفسكم و أموالكم , و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا , و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور"

فالصبر في أمثال هذه الآيات هو الثبات على الحق و التمسك به فلا يتطرق إلى النفس شك أو شبهة نتيجة موجات التكذيب و الإفتراء و الإستهزاء و الإزدراء. و هو الصبر الذي يحمي المؤمن من أن يتطرق إلى نفسه الوهن و الشعور بالمهانة و الإستخذاء, لأن شعوره بعزته و كرامته لا ينطلق من امكانياته المادية و منعته في قومه, بل من معرفته برفعة مبادئه و سمو قيمه و عدالة رسالته. و هو الصبر الذي يقدر عليه أولوا العزم حتى يعلم الله سبحانه استحقاقهم للنصر فيأتمنهم على دينه و شريعته.

·        و الصبر في القرآن الكريم يشير كذلك إلى قوة النفس و الإستعلاء بالإيمان على فتنة الزينة و بطر النعمة و خيلاء الغنى و الوفرة. يحدثنا القرآن الكريم عن قارون :

" فخرج على قومه في زينته, قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. و قال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحاً و ما يلقاها إلا الصابرون " فهؤلاء الصابرون لم تضعف نفوسهم و لم تنحل عرى تماسكهم أمام إغراء الزينة و صلف المظاهر,  لمعرفتهم أن العاقبة هي للعمل الصالح و ما ينفع الناس و ليست للأثرة و التكبر و الفساد في الأرض. فالضعفاء هم الذين انبهروا بالزينة و المظاهر, و أهل العزم و القوة  هم المؤمنون الصابرون.  

·        و الصبر في القرآن يشير كذلك إلى قوة النفس و التمكن من لجم رعوناتها و تماديها في مقام الإنتصاف للنفس و رغبة التشفي و الإنتقام من الظالمين. بل يبلغ الصبر من القدرة على توجيه المؤمنين إلى قمة أخلاقية سامقة لا يستطيعها إلا الواثقون بالأجر و المثوبة عند الله, إنها قمة الإحسان :

" و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير لللصابرين "

" و لا تستوي الحسنة و لا السيئة, ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم. و ما يلقاها إلا الذين صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم "

·        و أكثر الصبر في السور المدنية يشير إلى الثبات في مواقف المواجهة و الصراع و المرابطة و ما يتعلق بها من احتمال و استعلاء بالإيمان و صدق العهد مع الله :

" فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله و ما ضعفوا و ما استكانوا و الله يحب الصابرين "

" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصابرين "

" و أطيعوا الله و رسوله و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين "

فكل هذه الآفاق من معاني الصبر و مجالاته تدل على قوة العزيمة و قوة النفس و قوة الإيمان . و لذلك عرّف العلماء الصبر أنه حبس النفس على ما يقتضيه الإيمان و تقتضيه المروءة . و هذا ما جعل الإمام الغزالي يقول : ذكر الله الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات والدرجات إلى الصبر وجعلها ثمرة له. فهل يسوغ بعد هذا أن يضمر مفهوم الصبر إلى معنى واحد لا يحمل إلا عناصر السلبية و الإنسحاب ؟

و لعل التنبيه على ما يسببه اقتصار معنى الصبر على الإحتمال من الإختزال و التشويه لمعنى الصبر هو ما حمل ابن المقفع على أن يقول في " الأدب الكبير " : ليس الصبرُ الممدوحُ بأن يكون جِلدُ الرجلِ وقَاحاً على الضربِ، أو رجلهُ قويةً على المشي، أو يدهُ قويةً على العملِ. فإنما هذا من صفاتِ الحميرِ.                    ولكن الصبرَ الممدوحَ أن يكونَ للنفسِ غلوباً، وللأمورِ محتملاً، وفي الضراء متجمّلاً، و لنفسهِ عند الرأي والحفاظِ مرتبطاً, وللحزمِ مؤثِراً، وللهوى تاركاً، وللمشقةِ التي يرجو حسن عاقبتها مستخفّاً، وعلى مجاهدةِ الأهواء والشهواتِ مواظباً، ولبصيرتهِ بعزمهِ منفّذاً.

No comments:

Post a Comment