Saturday, 3 May 2014

الـتــوحـيــــد


التـــوحــــيـد

 

التوحيد هو المفهوم المركزي في التصور الإسلامي عن الكون و الوجود . و لا بد من دوام التفكير في شرحه و تبسيطه و عرضه ليكون من الوضوح و امكانية الفهم المباشر بشكل لا يترك مجالاً للشرك – وهو المفهوم المضاد للتوحيد – ليتسرب إلى قلوب المؤمنين و يفسد عليهم نقاء ايمانهم و صفاء رؤيتهم .

يعيش الإنسان في هذه الحياة و تمر به مواقف و تجارب و مشاعر و عواطف , و يتعرض لظواهر في الكون و نماذج من سلوك البشر . و المؤمن بالتوحيد لا يرى في كل ما يتعرض له إلا الله سبحانه و تعالى فاعلاً و مؤثراً و متجلياً في الوجود بأحد أسمائه الحسنى و صفاته أو مجموعة منها , فلا ينسب الفعل في كل ما يراه و يعانيه إلى الأسباب و ما جعله الله سبحانه وسائل و كيفيات لتجلي القدرة , بل ينسب الفعل إلى الله و يكون همه و ما يشغله هو كيف يستجيب لفعل الله و كيف يتأدب بالأدب الواجب لتجلي الأسماء و الصفات في قلبه و عقله و جوارحه . أما الذي يتعرض للمؤثرات و التجارب و تمر به ظواهر الكون فلا يرى إلا السبب المباشر فيقف عنده و لا يفكر في خالق الأسباب و جاعل الأمور على ما خصّصها به , فهو مبتلى بالشرك على درجات و مراتب قد تصل به إلى الكفر و الإلحاد عندما ينكر الصانع و يدّعي تأثيراً ذاتياً في ما يراه من مظاهر و ظواهر .

فالمؤمن مستغرَق بالرؤية الكلية للوجود , و التوحيد بالنسبة إليه طريقة فهم و إدراك و منهج استجابة و تفاعل . فالله سبحانه و تعالى هو في مركز هذه الرؤية و طريقة الفهم و منهج الإستجابة . و المشرك منحصر في الرؤية الجزئية لا يرى إلا السبب المباشر و لا يستجيب إلا في إطار ذاته و نفسه و هواه .

فالتوحيد و الشرك منهجان متقابلان في فهم الكون و التفاعل معه .

أخرج الحاكم في " المستدرك " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الشرك أخفى على أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء , و أدناه أن تحب على شيء من الجور أو تكره على شيء من العدل .

و في هذا الحديث يصل مدى ما يشمله مفهوم التوحيد أو الشرك إلى خفقة القلب و ميله بشيء من الحب أو الكره استجابة لموقف تعامل و تبادل . فمن كانت استجابته لمحاباة ظالمة من قريب أو صديق أن يزداد محبة للقريب و الصديق على ما حاباه و خصّه من حقوق غيره بغير وجه حق , فهذه الإستجابة تنطلق من الأنا و النفس و ما تهواه , و لا تعبأ بمقياس الحق و العدل أن يجنح أو يميل . و من كانت استجابته أن يجد في نفسه بعض الكراهية أو الغضب و الغيظ لأن صديقه أو قريبه عامله بالعدل و القسط و لم يزد له في حقه و لم يحابه لما يظنه من الدالّة عليه , فهذه الإستجابة كذلك تنطلق من الأنا و النفس و لا تعبأ بميزان الحق و العدل أن يجنح أو يميل . فالمؤمن تنضبط مشاعره بما وافق الحق و العدل و لا يجد في قلبه عند ذلك إلا الرضا و الإذعان . و يبدأ الشرك يتسلل إلى القلب عندما يبدأ دبيب تفضيل الأنا و المنفعة و المصلحة من حيث لا يعلم . و ليس ينجيه من هذا الشرك الخفي إلا اليقظة و الإستغفار . فيدعو ربه ويقول : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه و أستغفرك لما لا أعلمه .

أخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة ، فلما انصرف أقبل على الناس ، فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب ، وأما من قال : بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب "

و في هذا الحديث يعرض النبي صلى الله عليه و سلم مثالاً آخر لتجربة و موقف يمر بالناس و تختلف ردود أفعالهم و استجاباتهم على نموذجين اثنين هما التوحيد و الشرك . فالمطر ظاهرة طبيعية لها أسباب و شروط جعلها الله سبحانه قرينة و علامة على نزول المطر . فالمؤمن يستجيب لكل ما يراه و يعاينه بتذكر الحقيقة الكبرى أن الله سبحانه و تعالى هو الفاعل المؤثر و هو الخالق الرازق , ثم يصوغ عقله و قلبه بما يتوافق مع الحقيقة الكبرى و ما تقتضيه و تستلزمه , ثم لا يكون من جوارحه إلا أن تستجيب بما يقتضيه الفضل و الرحمة من الشكر و الخضوع و الإمتنان . أما الكافر الجاحد فلا يرى في نزول المطر إلا الأسباب القريبة و العلامات و الأمارات فيقف عندها معزولاً عن الحقيقة الكبرى و ما يجب لها , و يتسلل إلى قلبه غرور الإستحقاق و تطاول الأنا و لي و عندي بكل ما تحمله من جحود و كنود .

و المؤمن لا يغفل عن الأسباب و العلامات و القرائن و يعلم أنها جزء من النظام الذي وضعه الله سبحانه و قدّره في ملكه , فيتعامل معها بجدية و لا يتجاهلها أو يتجاوزها فذلك بالنسبة إلى المؤمن سوء أدب مع مالك الملك و مسبب الأسباب . و قد ذكر الإمام القرافي في كتابه " الفروق " قاعدة في الدعاء المحرَم فقال :

يجب على كل عاقل أن يفهم عوائد الله تعالى في خلقه و ربطه المسببات بالأسباب في الدنيا و الآخرة . فإذا سأل الداعي من الله تعالى تغيير مملكته و نقض نظامه و سلوك غير عوائده في ملكه كان مسيئاً الأدب عليه عزَ و جلَ .

و كذلك قرر الإمام الشاطبي في كتابه " الموافقات " ما أسماه القانون العظيم فقال :

جعل الله نتائج الاعمال تجري عادة على وزان الأسباب في الإستقامة و الإعوجاج. فمن التفت إلى المسبَبَات  [النتائج] من حيث كانت علامة على الأسباب في الصحة أو الفساد - لا من جهة أخرى - فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب على وزان ما شرع أو على خلاف ذلك .

فالمؤمن مبتلىً بأن يضبط عقله و قلبه بما يستدعيه التوحيد من فهم و خضوع , و مبتلىً في ذات الوقت بأن يتعامل مع الأسباب بجدية و لا يفرط في شيء منها و لا يتألى على الله طالباً ما يحب من استقامة النتائج مع التقصير في ما كُـلّف به من إعداد و استعداد .

لقد عانى المسلمون من تداعيات الخروج عن التوازن في قضية التوحيد مع اعتبار الأسباب ,  و في قضية إثبات طلاقة المشيئة الإلهية مع ثبات السنن , و تسرب إليهم العجز و الكسل و التفريط نتيجة الوهم بأن التوحيد يستدعي موقفاً متردداً من الخضوع و التدين بما وضع الله من أسباب و ما بثّـه من سنن . و لا بد من إعادة التوازن و معالجة التفريط .

و قد سن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم الأذكار و الأوراد يرددها العبد المؤمن صباح مساء و عند كل عمل يقدم عليه أو موقف يمر به . و كل هذه الأدعية و الأوراد و الأذكار تدور حول ربط قلب العبد بالله و التبرؤِ من الحول و القوة و طلب العون و الرشاد و التسديد من الله الذي بيده كل شيء . يفعل هذا و هو في سعي و عمل و جهاد و دأب يستفرغ وسعه و طاقته في فهم ما يلزمه فهمه من سنن و قوانين و أسباب و مقدمات ما يقوم به من عمل , يلتزم بمقتضياتها و يتأدب مع مالك الملك فيما وضع من سنن التسخير و أسباب قضاء الحوائج . فالأذكار و الأوراد – عند فهمها و تمثل معانيها – هي التي تربط القلب بمعنى التوحيد و تعيد التوازن إلى المؤمن وهو يكابد و يسعى و تستنقذ قلبه من الإستغراق مع عالم الأسباب بما ينسيه الحقيقة الكبرى في الوجود و واجبه نحوها في الخضوع و الإستسلام .

1 comment:

  1. اللهم اجعلنا من الموحدين الشاكرين الحامدين

    ReplyDelete