Sunday, 23 March 2014

من تشبه بقوم فهو منهم


من تــشــبّـه بقوم فهو منهم

 

في خطبة الجمعة , تحدث الخطيب عن بر الوالدين و البر بالأمهات و الإحسان إليهن , و كانت خطبة رائعة بكل المقاييس , بفصاحة و شاعرية لغتها و طريقة معالجة الموضوع برصانة و هدوء , و ما أبداه الخطيب جزاه الله خيراً من تفاعل مع الموضوع فقد كان يغالب دمعات تفيض من عينيه و تسبقه أحياناً فيتهدج صوته فيثير كوامن أشجان و أشواق و ذكريات رمز العطف و الإيثار و العطاء .

كان يوم الجمعة يصادف الحادي و العشرين من شهر آذار و هو يوم خصصته كثير من الدول و الشعوب لتكريم الأم و الأمومة . لم يشأ خطيبنا جزاه الله خيراً أن يترك تلك المصادفة دون تنبيه و تعليق فختم خطبته بالتنبيه على أن الإشادة بفضل الأم و برها و الإحسان إليها لا علاقة له بما يفعل الكفار من تخصيص يوم لتكريم الأم , فمن تشبه بقوم فهو منهم , و بالنسبة للمسلم فالسنة كلها هي موسم تكريم و بر و إحسان ..

بصراحة , لقد أفسد علي التعليق الأخير سروري بالخطبة و انتقلت أفكاري إلى سياق آخر و شعرت أن موضوع التشبه بالكفار لا بد له من توضيح و تحرير .

خرجت من المسجد و رأيت ازدحام السيارات التي تقف بشكل اعتباطي على الأرصفة و في منتصف الطريق . و رأيت الباعة ينشرون بضاعتهم على الرصيف عند مدخل المسجد فيزيدون من الزحام و الفوضى . و رأيت الأوساخ و القمامة تنتشر بشكل يند عن الذوق و الإحساس بالنظافة , فقلت في نفسي هل يظن هؤلاء أنهم يتشبهون بالكفار لو أنهم اهتموا بترتيب أمورهم و تنظيم السيارات و المرور و تجميع القمامة والاعتناء بالنظافة ؟  نظرت حولي فلفت نظري لوحات و أسماء المحلات مكتوبة بالعربية بما لايفهمه أحد من قحطان أو عدنان أو من العرب العاربة أو المستعربة – كريسبي ميل !  سوبر ماركت !  كانتكي تشيكن !  باسكين روبنز ! هارديز !  لارانشا ! سيتي ماكس ! . فقلت في نفسي : سبحان الله , أي الأمرين أولى بوصفه تشبهاً بالكفار , أهذه الرطانة بلغة العلوج و التي تنم عن استخذاء و انبهار و خضوع و انبطاح ثقافي و حضاري , أم موضوع تكريم الأمومة و الأمهات و الذي شرحه خطيبنا بما يدل بلا ريب أنه من المعاني الإنسانية المشتركة ؟

إن التواصل و الأخذ و العطاء بين الحضارات و الأمم و الشعوب أمر لا بد منه , و العزلة المطلقة غير ممكنة و غير مفيدة على الإطلاق , فما الضابط الذي يحكم أن شيئاً من هذا التواصل يندرج تحت عنوان التشبه بالكفار ؟

لا بد من التمييز في ثقافة كل شعب من الشعوب بين أمرين : أولهما الأمور الإنسانية الفطرية المشتركة و التي تميز بني آدم كمخلوق مكرم متميز بالعقل و الإدراك و ما ينتج عن ذلك من حكمة و ابداعات علمية أو اختراعات لوسائل و أدوات أو طرق تنظيم و إدارة . و الأمر الثاني من ثقافة الشعوب يتعلق بخصوصياتها اللغوية و العرقية أو التي تتعلق برؤيتها الكونية و ما ينعكس من تلك الرؤية على سياساتها و فنونها و اسلوب و نمط حياتها .

فالقسم الأول من ثقافة الشعوب لا يتعلق بإيمان أو كفر لأنه معانٍ انسانية مشتركة تتبادلها الشعوب دون حرج . و هي الحكمة – ضالة المؤمن – التي نطلبها حيث وجدناها . و هي الأمر الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بما أشار عليه سلمان يوم الخندق , فالوسائل الناتجة عن الحكمة العملية لا هوية لها . و هي الأمر الذي جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعتمد نظام الديوان الفارسي في تنظيم حركة الجهاد . و ما تواضع عليه الناس اليوم من اعتماد يوم للأم و يوم للطفل و آخر للأرض و غير ذلك , هي مناسبات للتواصل عبر المشترك الإنساني لتأكيد المبادئ و تقويم السياسات و تقييم الأداء و الإنجاز. 

أما القسم الثاني المتعلق بما يلزم عن الرؤية الكونية و خاصة إذا كانت تلك الرؤية هي التي سوغت وصف الكفر لتلك المجتمعات . فالتشبه بما سوّغ إطلاق وصف الكفر على مجتمع من المجتمعات إقرار ضمني بالرضا و القبول بنموذج حياة ينطوي على الفساد في التوجه . فالرؤية الكونية التي تضع الإنسان في مركز الكون و تبرر الإسراف و التبذير و تسعى لتعظيم الإستهلاك و استنزاف خيرات الأرض , و تسعى لتعظيم  المتعة و تجعلها هدف الحياة الإنسانية , لا شك أنها رؤية كونية جاحدة و التبني أو التشبه بما هو من مقتضياتها ينطوي على خطر كبير . و الرؤية الكونية التي تتبنى منطقاً داروينياً يبرر البقاء للأشرس و لو كان ذلك على حساب قتل الأبرياء و نشر الفساد في الحرث و النسل هي رؤية تضع الإنسان في مقام الألوهية و لا ينتج عنها إلا التكبر و العسف و الظلم . و هنا يكمن الخطر عندما يتبنى المرء الخصوصيات الثقافية – من لغة أو فنون أو نمط حياة – لمجتمع يتخذ من تلك الرؤية العنصرية دينه  و ديدنه بما يتضمنه هذا التبني من إقرار ضمني بالرؤية الكونية المستعلية الظالمة .

فالتشبه بالكفار الذي يجب على المؤمن الحذر منه هو التشبه الذي ينبع من الإقرار برؤيتهم الكونية و الإستخذاء لغلبتهم و سيطرتهم و الشعور بالدونية و الهوان .

و العاقل هو الذي يسعى للكشف عن نواحٍ من الثقافة الإنسانية المشتركة يحتفل بها ليقيم التواصل الإنساني على أسس من التنافس على الخير " فاستبقوا الخيرات " و على أسس تنمي قاعدة التعارف على حساب الأنانيات العرقية و الخصوصيات الثقافية . روى الإمام مسلم عن المستورد الفهري ، أنه قال لعمرو بن العاص : " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " ، فقال عمرو : انظر ما تقول قال : أقول لك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمرو : لئن قلت ذاك ، إن فيهم لخصالا أربعا : إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين وفقير وضعيف ، والرابعة حسنة جميلة : أمنعهم من ظلم الملوك .

فالعاقل هو الذي يستطيع أن يجعل من كل أمر إنساني مشترك " حلف الفضول " الذي يساهم في ردم الفجوات و إقامة العلاقات المتوازنة التي تعترف بالفضل و السبق لأهله .

1 comment: