ولـقـد
كرّمـنـا بـنـي آدم
خطاب
بناء المشترك الإنساني
ولقد
كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير
ممن خلقنا تفضيلا
احتفل المفسرون بذكر أنواع و
اصناف من التكريم و التفضيل . فذكروا أن الله سبحانه و تعالى كرّم النوع البشري
بالعقل، والنطق، والتمييز، والخط ، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر
المعاش والمعاد, و بتسليطهم على ما في السماء و الأرض و البحار وتسخيرها لهم . و
لكن المفسرين لم يتطرقوا إلى ذكر مقتضيات هذا الإعلان الإلهي و ما يجب أن يعكسه
هذا الإعلان على فهم الإنسان لنفسه و وعيه لإمكانياته و التزاماته تجاه نفسه و بني
جنسه قبل أن يتميزوا بأي وصف آخر غير كونهم من سلالة الجنس الآدمي المكرّم.
و أول مقتضيات التكريم بالعقل و التفضيل بالإدراك و الفهم , هو إدراك
الرؤية الكونية الشاملة التي تفسر الوجود و تضع الإنسان في موقعه بعيداً عن
العبثية و العدمية أو الإحالة إلى الصدفة العمياء . فعندما يواجه الإنسان عجائب
الملكوت يلح عليه سؤال البداية و الأصل و لا يجد بداً من الإعتراف بذات متعالية عن
هذا الكون أوجدته و تقوم عليه بالرعاية و الحفظ و التدبير . سأل النبي صلى الله عليه وسلم جاريةً : أين
الله ؟ فأشارت إلى السماء . فقال هي مؤمنة . و قد علق الإمام الشاطبي على ذلك
بقوله : كانت الجارية من قوم يعبدون الأصنام فلما أشارت أن الله في السماء فذلك
يعني أنها تؤمن بإله متعالٍ ليس من نوع الأصنام التي يعبدها قومها فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : هي مؤمنة . إن هذا الإدراك الفطري البسيط هو المشترك الإنساني
الذي تأتي الشرائع بالوحي الإلهي لتستـثمره و تنقذ الإنسان من عبوديات مذلة للشجر
و الحجر أو للرغبات و الأهواء , أو عبوديته لغيره من بني جنسه من الطواغيت المستكبرين
.
و من مقتضيات التكريم الإلهي و التفضيل الرباني أن يعمل الإنسان على
استثمار خصوصية العقل و العلم و الفهم - و التي تفرد بها الجنس البشري - في اكتشاف
امكانيات التسخير و سنن و آليات الإستعمال و الإرتفاق , و نشر العلم و المعرفة
العملية التي تزيد الحياة يسراً و بهجة و ترفع عنها العسر و المشقة . و قد ذكر
الإمام الشاطبي في الموافقات أن الكريم – سبحانه – إذا امتن على عباده بشيء من
النعم فإنه يحب منهم أن يستعملوها و يتنعموا بها , فإن الإعراض عن النعم و إهمالها
و عدم استعمالها و الإنتفاع بها ليس من مقتضيات الشكر و الشعور بالمنة و الفضل ,
بل هو إلى الجحود و كفر النعمة أقرب . فالجهل و الإعراض عن الإهتمام بالمعرفة
العملية يعرّض البشر للمهانة و الشقاء و يجعل حياتهم شاقة عسيرة مما يتعارض مع ما
أراده الله سبحانه لبني آدم من التكريم و التفضيل .
وعندما يعي الإنسان أنه مخلوق مكرم يدرك
مسؤوليته عن تنزيه نفسه عن كل ما يتعارض مع التكريم و التفضيل . فالبعد عن النجاسات و القاذورات و العناية
بالنظافة و الطهارة هي من أولى مقتضيات الشعور بالكرامة . فإشاعة ثقافة النظافة و
التطهير و التجميل تؤصّل شعور الكرامة الإنسانية . و من الملفت للنظر أن الأمر
القرآني بأخذ الزينة في أماكن العبادة توجه بالخطاب إلى بني آدم و ليس إلى الذين
آمنوا و هم الأولى بالخطاب في هذا المقام : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد و
كلوا و اشربوا و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . و في هذا الخطاب إشارة إلى بناء
المشترك الإنساني الذي يتصل بالنسب الآدمي و أصالة التكريم و الكرامة في تكوينه .
و البعد عن التعري و كشف السوءات هو من
مقتضيات التكريم الإلهي و هو فطرة إنسانية أدركها الإنسان في حضاراته و ثقافاته
المختلفة . و لذلك جاء الخطاب بالإمتنان الإلهي بنعمة خلق اللباس و الأثاث موجهاً
إلى بني آدم لإشعارهم أن التوجه إلى الستر و الحياء من كشف السوءات فطرة و مشترك
إنساني يحقق التكريم و التفضيل الذي قضى الله به لهذا المخلوق البشري من ذرية آدم
. " يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم و ريشاً و لباس التقوى
ذلك خير " . و قد علم الله سبحانه و تعالى أن التعري و كشف السوءات هو من أشد
أسلحة الشيطان فتكاً بفطرة الإنسان و اعتدال مزاجه و استقرار نظامه الإجتماعي ,
فجاء التحذير من هذه الفتنة الشيطانية كذلك موجَهاً لبني آدم على اختلاف ثقافاتهم
و حضاراتهم لإعطاء التأكيد على المشترك الإنساني الذي يضمن الكرامة الإنسانية و يعززها .
" يا بني آدم لا يفننكم الشيطان كما أخرج ابويكم من الجنة ينزع عنهما
لباسهما ليريهما سوءاتهما " .
و البعد عن كل ما يلحق المهانة و التحقير و
الإزدراء بالإنسان هو من مقتضيات التكريم الإلهي و الذي يجب أن يكون المشترك
الإنساني لكل من ينتسب إلى النسب الآدمي مهما اختلفت عوامل العداوة و أسباب الصراع
. و هنا لا بد من الإنتباه إلى المنزلق الخطير الذي قد يقع به المؤمنون عندما
يشعرون أن ما يتورط به العصاة و المذنبون يبرر إهانتهم و احتقارهم . مر ابن مسعود
على رجل قد اقترف ذنباً فكان الناس يسبونه و يلعنونه . فقال لا تسبوا أخاكم و
احمدوا الله الذي عافاكم . فقالوا أفلا نبغضه ؟ قال لا , إنما أبغض عمله فإذا تركه
فهو أخي . و قد بين الإمام الغزالي في كتاب الكبر من " الإحياء " كيف
أنه لا يجوز التكبر على الفاسق و المبتدع و الكافر فقال : فإن قلت فكيف يتواضع للفاسق المتظاهر بالفسق وللمبتدع وكيف يرى نفسه
دونهم وهو عالم عابد وكيف يجهل فضل العلم والعبادة عند الله تعالى وكيف يغنيه أن
يخطر بباله خطر العلم وهو يعلم أن خطر الفاسق والمبتدع أكثر. فاعلم أن ذلك إنما يمكن بالتفكر في خطر الخاتمة
بل لو نظر إلى كافر لم يمكنه أن يتكبر عليه إذ يتصور أن يسلم الكافر فيختم له
بالإيمان ويضل هذا العالم فيختم له بالكفر. والكبير من هو كبير عند
الله في الآخرة والكلب والخنزير أعلى رتبة ممن هو عند الله من أهل النار وهو لا
يدري ذلك. . . . . . .
و من مقتضيات التكريم و التفضيل اقرار
الإختلاف و التباين في اللغات و الثقافات و لون البشرة و اعتبار هذه الإختلافات
مصدر غنى يجمّل الحياة و يلونها و يزيدها بهجة بالتعارف و التواصل في إطار التعاون
على الخير و التنافس فيه . " و من آياته خلق السموات و الأرض و اختلاف ألسنتكم
و ألوانكم " , " و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم في ما
آتاكم فاستبقوا الخيرات " . فالإعتراف
بالإختلافات التي لا اختيار للإنسان فيها و الحذر من اتخاذها أساساً للتمايز و
التعالي يؤصل الشعور بالمشترك الإنساني و استشعار الكرامة الإنسانية . و قد أشار
العلامة ابن عاشور رحمه الله في "
مقاصد الشريعة الإسلامية " أن
خصوصيات الثقافة و العادات و الأعراف لشعـب من الشعـوب لا يمكن فرضـها على الشعوب
الأخرى ( بما هي أعراف و عادات ) و أن من مقاصد الشريعة و خصائصها أنها تعتبر و تبني
على المشترك الإنساني المتمثل في المعاني و المصالح و المنافع المعقولة التي
يدركها البشر بعقولهم على اختلاف و تنوع بيئاتهم . فالإعتراف بالفسحة الخصوصية
التي يتحرك ضمنها البشر بحرية دون إقصاء أو تمييز , هو من وجوه التكريم الذي أبرزته
الشريعة التي ترفض الإكراه و الإستعلاء الثقافي و محاولة فرض و تعميم ثقافة و
عادات قوم على غيرهم من الأقوام .
و من مقتضيات التكريم الإلهي و التفضيل
الرباني لبني آدم أن يستشعروا هذا التكريم و التفضيل عندما يختارون مجالات تنافسهم
و توجهات نشاطاتهم . فالله سبحانه يحب معالي الأمور و يكره سفاسفها . و قد خلق
الله في البشر غرائز و حاجات يشاركون بها غيرهم من المخلوقات لوظيفة محددة و غرض
مخصوص لحفظ النوع و حفظ التوازن في دورة الحياة . فعندما يتجاوز البشر في اهتمامهم
بما يتصل بغرائزهم و ما يشاركون به الحيوانات و ذلك بشكل يتجاوز الغرض و الوظيفة
لتلك الغرائز , يقعون في السفاهة و التفاهة التي تتعارض مع مقتضيات التكريم و
التفضيل . فالتأنق و الإهتمام بتنوع أصناف الطعام يزيد الحياة جمالاً و متعة .
فإذا خرج هذا الإهتمام عن الإعتدال بالإسراف و التبذير أو عن مقصد الغذاء إلى مجرد
المتعة و التلذذ , فأية سفاهة و تفاهة يصل إليها الإنسان عندما يصل إلى ما وصل
إليه الرومان في غابر الزمان عندما كانوا يبنون في أماكن طعامهم أوعية خاصة
يتقيؤون فيها عند الشعور بالإمتلاء من الطعام ليعودوا للإستمتاع و التلذذ بمزيد من
الطعام و الشراب ؟
و كذلك , خلق الله سبحانه بين الذكر و
الأنثى مشاعر المودة و الرحمة تزيد الحياة بهجة و أنساً و متعة , و ذلك لوظيفة و
غرض في بناء لحمة اجتماعية و علاقات نسب و صهر لينشأ المجتمع الذي يحقق حاجات
الإنسان المتنوعة , و يستمر بقاء النوع بتوفير البيئة التي ترعى الإنسان في سنوات
صغره الطويلة . فأية سفاهة و أية تفاهة يقع فيها الإنسان بما يخرجه عن الكرامة
التي ارادها الله له عندما يبتغي اللذة و المتعة الجنسية و يسعى إلى تعظيمها مفصولة
و مقطوعة عن أية وظيفة أو حاجات اجتماعية في كيان الإنسان؟ إن نشر ثقافة التفاهة و
السفاهة و التأكيد على نشر ثقافة الإستهلاك و السرف و الترف و تعظيم المتعة و
اللذة المتمركزة حول الذات , هو مسخ للإنسان يتعارض مع مقتضيات التكريم و التفضيل ,
و اختزال للإنسان إلى جانبه الحسي المادي الذي يشارك فيه الحيوان .
فمعالي الأمور التي يحب الله تعالى من
الإنسان أن يهتم بها هي الأمور التي يتميز بها الإنسان من روح و عقل و إدراك و علم
عندما تتوجه إلى تزكية الحياة باستثمار مجالات التكريم و التفضيل . و لعل مما تجدر
الإشارة إليه في هذا المقام أن الله سبحانه ما حرّم في شرعه إلا الخبائث التي
تتعارض مع التكريم و التفضيل , و ما أباح إلا الطيبات التي تزيد الحياة زكاةً و
طيباً و متعة و بعداً عن العسر و المشقة .
إن فهم آفاق التكريم الإلهي و تمثلها و
البناء عليها في تربية الأمة و توجيهها , و اعتبار التكريم و التفضيل مؤهلات تتبعها مسؤوليات , هو الذي يفتح باب
الأمل لعلاقات منفتحة و تواصل بعيد عن التشنج و الإستقطاب بين ذرية آدم من قبائل و
شعوب , و ذلك عند نشر و تعميم الثقافة الإنسانية المشتركة التي تنبني على الإعلان
الإلهي الخالد " و لقد كرمنا بني آدم " .
No comments:
Post a Comment