Sunday, 23 March 2014

من تشبه بقوم فهو منهم


من تــشــبّـه بقوم فهو منهم

 

في خطبة الجمعة , تحدث الخطيب عن بر الوالدين و البر بالأمهات و الإحسان إليهن , و كانت خطبة رائعة بكل المقاييس , بفصاحة و شاعرية لغتها و طريقة معالجة الموضوع برصانة و هدوء , و ما أبداه الخطيب جزاه الله خيراً من تفاعل مع الموضوع فقد كان يغالب دمعات تفيض من عينيه و تسبقه أحياناً فيتهدج صوته فيثير كوامن أشجان و أشواق و ذكريات رمز العطف و الإيثار و العطاء .

كان يوم الجمعة يصادف الحادي و العشرين من شهر آذار و هو يوم خصصته كثير من الدول و الشعوب لتكريم الأم و الأمومة . لم يشأ خطيبنا جزاه الله خيراً أن يترك تلك المصادفة دون تنبيه و تعليق فختم خطبته بالتنبيه على أن الإشادة بفضل الأم و برها و الإحسان إليها لا علاقة له بما يفعل الكفار من تخصيص يوم لتكريم الأم , فمن تشبه بقوم فهو منهم , و بالنسبة للمسلم فالسنة كلها هي موسم تكريم و بر و إحسان ..

بصراحة , لقد أفسد علي التعليق الأخير سروري بالخطبة و انتقلت أفكاري إلى سياق آخر و شعرت أن موضوع التشبه بالكفار لا بد له من توضيح و تحرير .

خرجت من المسجد و رأيت ازدحام السيارات التي تقف بشكل اعتباطي على الأرصفة و في منتصف الطريق . و رأيت الباعة ينشرون بضاعتهم على الرصيف عند مدخل المسجد فيزيدون من الزحام و الفوضى . و رأيت الأوساخ و القمامة تنتشر بشكل يند عن الذوق و الإحساس بالنظافة , فقلت في نفسي هل يظن هؤلاء أنهم يتشبهون بالكفار لو أنهم اهتموا بترتيب أمورهم و تنظيم السيارات و المرور و تجميع القمامة والاعتناء بالنظافة ؟  نظرت حولي فلفت نظري لوحات و أسماء المحلات مكتوبة بالعربية بما لايفهمه أحد من قحطان أو عدنان أو من العرب العاربة أو المستعربة – كريسبي ميل !  سوبر ماركت !  كانتكي تشيكن !  باسكين روبنز ! هارديز !  لارانشا ! سيتي ماكس ! . فقلت في نفسي : سبحان الله , أي الأمرين أولى بوصفه تشبهاً بالكفار , أهذه الرطانة بلغة العلوج و التي تنم عن استخذاء و انبهار و خضوع و انبطاح ثقافي و حضاري , أم موضوع تكريم الأمومة و الأمهات و الذي شرحه خطيبنا بما يدل بلا ريب أنه من المعاني الإنسانية المشتركة ؟

إن التواصل و الأخذ و العطاء بين الحضارات و الأمم و الشعوب أمر لا بد منه , و العزلة المطلقة غير ممكنة و غير مفيدة على الإطلاق , فما الضابط الذي يحكم أن شيئاً من هذا التواصل يندرج تحت عنوان التشبه بالكفار ؟

لا بد من التمييز في ثقافة كل شعب من الشعوب بين أمرين : أولهما الأمور الإنسانية الفطرية المشتركة و التي تميز بني آدم كمخلوق مكرم متميز بالعقل و الإدراك و ما ينتج عن ذلك من حكمة و ابداعات علمية أو اختراعات لوسائل و أدوات أو طرق تنظيم و إدارة . و الأمر الثاني من ثقافة الشعوب يتعلق بخصوصياتها اللغوية و العرقية أو التي تتعلق برؤيتها الكونية و ما ينعكس من تلك الرؤية على سياساتها و فنونها و اسلوب و نمط حياتها .

فالقسم الأول من ثقافة الشعوب لا يتعلق بإيمان أو كفر لأنه معانٍ انسانية مشتركة تتبادلها الشعوب دون حرج . و هي الحكمة – ضالة المؤمن – التي نطلبها حيث وجدناها . و هي الأمر الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بما أشار عليه سلمان يوم الخندق , فالوسائل الناتجة عن الحكمة العملية لا هوية لها . و هي الأمر الذي جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعتمد نظام الديوان الفارسي في تنظيم حركة الجهاد . و ما تواضع عليه الناس اليوم من اعتماد يوم للأم و يوم للطفل و آخر للأرض و غير ذلك , هي مناسبات للتواصل عبر المشترك الإنساني لتأكيد المبادئ و تقويم السياسات و تقييم الأداء و الإنجاز. 

أما القسم الثاني المتعلق بما يلزم عن الرؤية الكونية و خاصة إذا كانت تلك الرؤية هي التي سوغت وصف الكفر لتلك المجتمعات . فالتشبه بما سوّغ إطلاق وصف الكفر على مجتمع من المجتمعات إقرار ضمني بالرضا و القبول بنموذج حياة ينطوي على الفساد في التوجه . فالرؤية الكونية التي تضع الإنسان في مركز الكون و تبرر الإسراف و التبذير و تسعى لتعظيم الإستهلاك و استنزاف خيرات الأرض , و تسعى لتعظيم  المتعة و تجعلها هدف الحياة الإنسانية , لا شك أنها رؤية كونية جاحدة و التبني أو التشبه بما هو من مقتضياتها ينطوي على خطر كبير . و الرؤية الكونية التي تتبنى منطقاً داروينياً يبرر البقاء للأشرس و لو كان ذلك على حساب قتل الأبرياء و نشر الفساد في الحرث و النسل هي رؤية تضع الإنسان في مقام الألوهية و لا ينتج عنها إلا التكبر و العسف و الظلم . و هنا يكمن الخطر عندما يتبنى المرء الخصوصيات الثقافية – من لغة أو فنون أو نمط حياة – لمجتمع يتخذ من تلك الرؤية العنصرية دينه  و ديدنه بما يتضمنه هذا التبني من إقرار ضمني بالرؤية الكونية المستعلية الظالمة .

فالتشبه بالكفار الذي يجب على المؤمن الحذر منه هو التشبه الذي ينبع من الإقرار برؤيتهم الكونية و الإستخذاء لغلبتهم و سيطرتهم و الشعور بالدونية و الهوان .

و العاقل هو الذي يسعى للكشف عن نواحٍ من الثقافة الإنسانية المشتركة يحتفل بها ليقيم التواصل الإنساني على أسس من التنافس على الخير " فاستبقوا الخيرات " و على أسس تنمي قاعدة التعارف على حساب الأنانيات العرقية و الخصوصيات الثقافية . روى الإمام مسلم عن المستورد الفهري ، أنه قال لعمرو بن العاص : " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " ، فقال عمرو : انظر ما تقول قال : أقول لك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمرو : لئن قلت ذاك ، إن فيهم لخصالا أربعا : إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين وفقير وضعيف ، والرابعة حسنة جميلة : أمنعهم من ظلم الملوك .

فالعاقل هو الذي يستطيع أن يجعل من كل أمر إنساني مشترك " حلف الفضول " الذي يساهم في ردم الفجوات و إقامة العلاقات المتوازنة التي تعترف بالفضل و السبق لأهله .

Saturday, 15 March 2014

و لقد كرمنا بني آدم


ولـقـد كرّمـنـا بـنـي آدم

خطاب بناء المشترك الإنساني

 

ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا

احتفل المفسرون بذكر أنواع و اصناف من التكريم و التفضيل . فذكروا أن الله سبحانه و تعالى كرّم النوع البشري بالعقل، والنطق، والتمييز، والخط ، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد, و بتسليطهم على ما في السماء و الأرض و البحار وتسخيرها لهم . و لكن المفسرين لم يتطرقوا إلى ذكر مقتضيات هذا الإعلان الإلهي و ما يجب أن يعكسه هذا الإعلان على فهم الإنسان لنفسه و وعيه لإمكانياته و التزاماته تجاه نفسه و بني جنسه قبل أن يتميزوا بأي وصف آخر غير كونهم من سلالة الجنس الآدمي المكرّم.

و أول مقتضيات التكريم بالعقل و التفضيل بالإدراك و الفهم , هو إدراك الرؤية الكونية الشاملة التي تفسر الوجود و تضع الإنسان في موقعه بعيداً عن العبثية و العدمية أو الإحالة إلى الصدفة العمياء . فعندما يواجه الإنسان عجائب الملكوت يلح عليه سؤال البداية و الأصل و لا يجد بداً من الإعتراف بذات متعالية عن هذا الكون أوجدته و تقوم عليه بالرعاية و الحفظ و التدبير . سأل النبي صلى الله عليه وسلم جاريةً : أين الله ؟ فأشارت إلى السماء . فقال هي مؤمنة . و قد علق الإمام الشاطبي على ذلك بقوله : كانت الجارية من قوم يعبدون الأصنام فلما أشارت أن الله في السماء فذلك يعني أنها تؤمن بإله متعالٍ ليس من نوع الأصنام التي يعبدها قومها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هي مؤمنة . إن هذا الإدراك الفطري البسيط هو المشترك الإنساني الذي تأتي الشرائع بالوحي الإلهي لتستـثمره و تنقذ الإنسان من عبوديات مذلة للشجر و الحجر أو للرغبات و الأهواء , أو عبوديته لغيره من بني جنسه من الطواغيت المستكبرين .

و من مقتضيات التكريم الإلهي و التفضيل الرباني أن يعمل الإنسان على استثمار خصوصية العقل و العلم و الفهم - و التي تفرد بها الجنس البشري - في اكتشاف امكانيات التسخير و سنن و آليات الإستعمال و الإرتفاق , و نشر العلم و المعرفة العملية التي تزيد الحياة يسراً و بهجة و ترفع عنها العسر و المشقة . و قد ذكر الإمام الشاطبي في الموافقات أن الكريم – سبحانه – إذا امتن على عباده بشيء من النعم فإنه يحب منهم أن يستعملوها و يتنعموا بها , فإن الإعراض عن النعم و إهمالها و عدم استعمالها و الإنتفاع بها ليس من مقتضيات الشكر و الشعور بالمنة و الفضل , بل هو إلى الجحود و كفر النعمة أقرب . فالجهل و الإعراض عن الإهتمام بالمعرفة العملية يعرّض البشر للمهانة و الشقاء و يجعل حياتهم شاقة عسيرة مما يتعارض مع ما أراده الله سبحانه لبني آدم من التكريم و التفضيل .

وعندما يعي الإنسان أنه مخلوق مكرم يدرك مسؤوليته عن تنزيه نفسه عن كل ما يتعارض مع التكريم و التفضيل .  فالبعد عن النجاسات و القاذورات و العناية بالنظافة و الطهارة هي من أولى مقتضيات الشعور بالكرامة . فإشاعة ثقافة النظافة و التطهير و التجميل تؤصّل شعور الكرامة الإنسانية . و من الملفت للنظر أن الأمر القرآني بأخذ الزينة في أماكن العبادة توجه بالخطاب إلى بني آدم و ليس إلى الذين آمنوا و هم الأولى بالخطاب في هذا المقام : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . و في هذا الخطاب إشارة إلى بناء المشترك الإنساني الذي يتصل بالنسب الآدمي و أصالة التكريم و الكرامة في تكوينه .

و البعد عن التعري و كشف السوءات هو من مقتضيات التكريم الإلهي و هو فطرة إنسانية أدركها الإنسان في حضاراته و ثقافاته المختلفة . و لذلك جاء الخطاب بالإمتنان الإلهي بنعمة خلق اللباس و الأثاث موجهاً إلى بني آدم لإشعارهم أن التوجه إلى الستر و الحياء من كشف السوءات فطرة و مشترك إنساني يحقق التكريم و التفضيل الذي قضى الله به لهذا المخلوق البشري من ذرية آدم . " يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم و ريشاً و لباس التقوى ذلك خير " . و قد علم الله سبحانه و تعالى أن التعري و كشف السوءات هو من أشد أسلحة الشيطان فتكاً بفطرة الإنسان و اعتدال مزاجه و استقرار نظامه الإجتماعي , فجاء التحذير من هذه الفتنة الشيطانية كذلك موجَهاً لبني آدم على اختلاف ثقافاتهم و حضاراتهم لإعطاء التأكيد على المشترك الإنساني الذي يضمن الكرامة الإنسانية  و يعززها .    " يا بني آدم لا يفننكم الشيطان كما أخرج ابويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما " .

و البعد عن كل ما يلحق المهانة و التحقير و الإزدراء بالإنسان هو من مقتضيات التكريم الإلهي و الذي يجب أن يكون المشترك الإنساني لكل من ينتسب إلى النسب الآدمي مهما اختلفت عوامل العداوة و أسباب الصراع . و هنا لا بد من الإنتباه إلى المنزلق الخطير الذي قد يقع به المؤمنون عندما يشعرون أن ما يتورط به العصاة و المذنبون يبرر إهانتهم و احتقارهم . مر ابن مسعود على رجل قد اقترف ذنباً فكان الناس يسبونه و يلعنونه . فقال لا تسبوا أخاكم و احمدوا الله الذي عافاكم . فقالوا أفلا نبغضه ؟ قال لا , إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي . و قد بين الإمام الغزالي في كتاب الكبر من " الإحياء " كيف أنه لا يجوز التكبر على الفاسق و المبتدع و الكافر فقال : فإن قلت فكيف يتواضع للفاسق المتظاهر بالفسق وللمبتدع وكيف يرى نفسه دونهم وهو عالم عابد وكيف يجهل فضل العلم والعبادة عند الله تعالى وكيف يغنيه أن يخطر بباله خطر العلم وهو يعلم أن خطر الفاسق والمبتدع أكثر.  فاعلم أن ذلك إنما يمكن بالتفكر في خطر الخاتمة بل لو نظر إلى كافر لم يمكنه أن يتكبر عليه إذ يتصور أن يسلم الكافر فيختم له بالإيمان ويضل هذا العالم فيختم له بالكفر. والكبير من هو كبير عند الله في الآخرة والكلب والخنزير أعلى رتبة ممن هو عند الله من أهل النار وهو لا يدري ذلك. . . . . . .

و من مقتضيات التكريم و التفضيل اقرار الإختلاف و التباين في اللغات و الثقافات و لون البشرة و اعتبار هذه الإختلافات مصدر غنى يجمّل الحياة و يلونها و يزيدها بهجة بالتعارف و التواصل في إطار التعاون على الخير و التنافس فيه . " و من آياته خلق السموات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم " , " و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات "  . فالإعتراف بالإختلافات التي لا اختيار للإنسان فيها و الحذر من اتخاذها أساساً للتمايز و التعالي يؤصل الشعور بالمشترك الإنساني و استشعار الكرامة الإنسانية . و قد أشار العلامة ابن عاشور رحمه الله في  " مقاصد الشريعة الإسلامية "  أن خصوصيات الثقافة و العادات و الأعراف لشعـب من الشعـوب لا يمكن فرضـها على الشعوب الأخرى ( بما هي أعراف و عادات ) و أن من مقاصد الشريعة و خصائصها أنها تعتبر و تبني على المشترك الإنساني المتمثل في المعاني و المصالح و المنافع المعقولة التي يدركها البشر بعقولهم على اختلاف و تنوع بيئاتهم . فالإعتراف بالفسحة الخصوصية التي يتحرك ضمنها البشر بحرية دون إقصاء أو تمييز , هو من وجوه التكريم الذي أبرزته الشريعة التي ترفض الإكراه و الإستعلاء الثقافي و محاولة فرض و تعميم ثقافة و عادات قوم على غيرهم من الأقوام  .

و من مقتضيات التكريم الإلهي و التفضيل الرباني لبني آدم أن يستشعروا هذا التكريم و التفضيل عندما يختارون مجالات تنافسهم و توجهات نشاطاتهم . فالله سبحانه يحب معالي الأمور و يكره سفاسفها . و قد خلق الله في البشر غرائز و حاجات يشاركون بها غيرهم من المخلوقات لوظيفة محددة و غرض مخصوص لحفظ النوع و حفظ التوازن في دورة الحياة . فعندما يتجاوز البشر في اهتمامهم بما يتصل بغرائزهم و ما يشاركون به الحيوانات و ذلك بشكل يتجاوز الغرض و الوظيفة لتلك الغرائز , يقعون في السفاهة و التفاهة التي تتعارض مع مقتضيات التكريم و التفضيل . فالتأنق و الإهتمام بتنوع أصناف الطعام يزيد الحياة جمالاً و متعة . فإذا خرج هذا الإهتمام عن الإعتدال بالإسراف و التبذير أو عن مقصد الغذاء إلى مجرد المتعة و التلذذ , فأية سفاهة و تفاهة يصل إليها الإنسان عندما يصل إلى ما وصل إليه الرومان في غابر الزمان عندما كانوا يبنون في أماكن طعامهم أوعية خاصة يتقيؤون فيها عند الشعور بالإمتلاء من الطعام ليعودوا للإستمتاع و التلذذ بمزيد من الطعام و الشراب ؟

و كذلك , خلق الله سبحانه بين الذكر و الأنثى مشاعر المودة و الرحمة تزيد الحياة بهجة و أنساً و متعة , و ذلك لوظيفة و غرض في بناء لحمة اجتماعية و علاقات نسب و صهر لينشأ المجتمع الذي يحقق حاجات الإنسان المتنوعة , و يستمر بقاء النوع بتوفير البيئة التي ترعى الإنسان في سنوات صغره الطويلة . فأية سفاهة و أية تفاهة يقع فيها الإنسان بما يخرجه عن الكرامة التي ارادها الله له عندما يبتغي اللذة و المتعة الجنسية و يسعى إلى تعظيمها مفصولة و مقطوعة عن أية وظيفة أو حاجات اجتماعية في كيان الإنسان؟ إن نشر ثقافة التفاهة و السفاهة و التأكيد على نشر ثقافة الإستهلاك و السرف و الترف و تعظيم المتعة و اللذة المتمركزة حول الذات , هو مسخ للإنسان يتعارض مع مقتضيات التكريم و التفضيل , و اختزال للإنسان إلى جانبه الحسي المادي الذي يشارك فيه الحيوان .

فمعالي الأمور التي يحب الله تعالى من الإنسان أن يهتم بها هي الأمور التي يتميز بها الإنسان من روح و عقل و إدراك و علم عندما تتوجه إلى تزكية الحياة باستثمار مجالات التكريم و التفضيل . و لعل مما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن الله سبحانه ما حرّم في شرعه إلا الخبائث التي تتعارض مع التكريم و التفضيل , و ما أباح إلا الطيبات التي تزيد الحياة زكاةً و طيباً و متعة و بعداً عن العسر و المشقة .

إن فهم آفاق التكريم الإلهي و تمثلها و البناء عليها في تربية الأمة و توجيهها , و اعتبار التكريم و التفضيل  مؤهلات تتبعها مسؤوليات , هو الذي يفتح باب الأمل لعلاقات منفتحة و تواصل بعيد عن التشنج و الإستقطاب بين ذرية آدم من قبائل و شعوب , و ذلك عند نشر و تعميم الثقافة الإنسانية المشتركة التي تنبني على الإعلان الإلهي الخالد " و لقد كرمنا بني آدم " .

Saturday, 8 March 2014

النظيف عرفاً طاهر شرعاً


النظيف عرفاً طاهر شرعاً

هناك أمر يتطلب مواجهة صريحة , و هو إنفصام العلاقة بين المفهوم الشرعي للطهارة و بين النظافة في مجتمعات المسلمين . و الناس في هذا الأمر في حرج بين مبالغات و غلو في معنى الطهارة الشرعية و الذي يصل إلى حد الوسوسة , و بين إهمال النظافة و خاصة في المستوى الجماعي أو الفضاء الإجتماعي , بحيث لو قارنا بين المسلمين و غيرهم في مجتمع من المجتمعات فلن يكون المسلمون هم الأنظف .

  و قد عالج الإمام الغزالي في الإحياء موضوع الوسوسة و المبالغة و الغلو في معنى الطهارة الشرعية و جاء بما يرد الناس عن التكلف و العنت في هذه المسألة و أوضح المعيار الشرعي فيما يجب من الطهارة . و لكن الأمر الآخر و هو إنفصام الطهارة عن النظافة فما زال بحاجة إلى بعض المعالجة و خاصة و أن موضوع النظافة قد اختزل ليعني الطهارة - في حدها الأدنى -   من المستقذرات على المستوى الشخصي فقط  أي لما تصح به الصلاة.  فلا بد من دراسة هذا الموضوع فقد أصبحت الطهارة أمراً غير معقول المعنى و أصبح من الممكن أن نطلق وصف الطهارة الشرعية على أشياء فيها من القذارة و عدم اللياقة و المناسبة للبيئة بما يتعارض مع مفهوم الكرامة الإنسانية التي قررها القرآن .

لقد كان من أول ما نزل من القرآن قوله تعالى " و ثيابك فطهر " . فالأمر بتطهير الثياب أو تطهير النفس و الجسم باعتبار المعنى المجازي قبل أن تفرض الصلاة و كل ما يتعلق بها من شروط له دلالة واضحة على صبغة الطهارة و النظافة التي يريد القرآن تأصيلها في هوية الأمة . و الطهور شطر الإيمان و لكن الممارسة العملية للمسلمين لا تدل على اهتمام بالطهارة و النظافة يعكس تلك المكانة للنظافة .  روى البخاري عن النبي صلى الله عليه و سلم : " إن الله جميل يحب الجمال نظيف يحب النظافة فنظّفوا أفنيتكم و لا تشبّهوا باليهود " . فالمسألة تصل في خطورتها إلى ما يقدح في هوية الأمة و صبغتها . و لكن الناظر في حال الأمة لا يرى الإهتمام الواجب بهذا الأمر و خاصة في الفضاء الإجتماعي .

عند مراجعة النصوص و الفتاوى التي تقرر حكم الطهارة في حدها الأدنى – لما تصح به الصلاة – نجد أن هذه النصوص تستند إلى واقع بيئة الصحراء العربية التي لا تتمتع بوفرة في مصادر الماء . فإذا تعلم الإنسان أن يطهر نفسه بالحجارة في بيئة لا يكاد يجد من الماء ما يكفيه للشرب فذلك أمر مفهوم بالإضافة إلى أنه يشكل نقلة حضارية في النظافة لبدوي لم يكن ينظف نفسه بشيء . أما أن تصبح هذه الطريقة هي المعيار المطلق للنظافة في كل البيئات , فأي صد عن سبيل الله و أي جمود عند ظروف صحراء العرب لمن يملك رسالة للعالمين , و خاصة إذا كان يعيش في بيئة يستحم أهلها كل يوم ؟

و قد حملني التفكير في هذا الأمر إلى استقراء فتاوى الفقهاء في التطهير فوصلت إلى صياغة قاعدة  تربط بين النظافة و الطهارة ( التي لا تتعلق بالطهارة التعبدية من تيمم و وضوء و غسل ) و تريح من التفصيلات و التعسفات و هي :            النظيف عرفاً طاهر شرعاً . 
فكل ما لا نستقذره و ننفر منه في عرف البيئة التي نعيش فيها هو طاهر تصح به العبادات.

 إن بين الطهارة الشرعية و النظافة العرفية ترابطاً وثيقاً يمكن أن نلاحظه في ضوء ما يقرره الإمام القرافي في كتاب الفروق , من أنه ليس هناك علة للطهارة , و لكن هناك علة واضحة للنجاسة و هي الإستقذار . و عندما نراجع وسائل و طرق التطهير التي نص عليها الفقهاء مثل الغسل و المسح و الحرق و الإستحالة و الجفاف و غيرها نجد اطراداً في اعتبار النظافة عند إزالة المستقذرات و رفعها أو تغيرها .

إنه لا بد من طرح هذا الموضوع و مراجعة كيفية تعليم الناس مفهوم الطهارة الشرعية ( فيما وراء الطهارات التعبدية من تيمم و وضوء و غسل ) بما يكفل إعادة الإرتباط بين الطهارة و النظافة  ,كلّ في بيئته  و ظروفه . و لا بد من إعادة الوعي للمسلم أنه يمتلك مشروعاً حضارياً يزكي الحياة و يكرم الإنسان معنوياً و مادياً على حد سواء . و لا بد من البيان أن هدف هذه المراجعة الضرورية هو أن يعود إلى وعي المسلمين أنّ المطلوب هو أن يكون المسلم الأنظف و الأنقى و الأطهر في كل بيئة يكون فيها بلا تكلف , و ذلك على المستوى الشخصي و في المجال الإجتماعي على حد سواء

إن هذه القاعدة ( النظيف عرفاً طاهر شرعاً ) تصلح لمعالجة الغلو و التكلف في أمر الطهارة و التطهير و تعالج المشكلة الأخرى من الفصل بين النظافة و الطهارة و خاصة في الفضاء العام ، و ترفع بعض ما يوقع في الحرج . فلا بد من دوام التفكير في وسائل التطهير و التنظيف لإعادة مفهوم الطهارة إلى مقاصده بما يحقق تزكية الحياة و ترقية الأمة .

*