من تــشــبّـه بقوم
فهو منهم
في خطبة الجمعة , تحدث الخطيب عن بر
الوالدين و البر بالأمهات و الإحسان إليهن , و كانت خطبة رائعة بكل المقاييس , بفصاحة
و شاعرية لغتها و طريقة معالجة الموضوع برصانة و هدوء , و ما أبداه الخطيب جزاه
الله خيراً من تفاعل مع الموضوع فقد كان يغالب دمعات تفيض من عينيه و تسبقه
أحياناً فيتهدج صوته فيثير كوامن أشجان و أشواق و ذكريات رمز العطف و الإيثار و
العطاء .
كان يوم الجمعة يصادف الحادي و العشرين من
شهر آذار و هو يوم خصصته كثير من الدول و الشعوب لتكريم الأم و الأمومة . لم يشأ
خطيبنا جزاه الله خيراً أن يترك تلك المصادفة دون تنبيه و تعليق فختم خطبته
بالتنبيه على أن الإشادة بفضل الأم و برها و الإحسان إليها لا علاقة له بما يفعل
الكفار من تخصيص يوم لتكريم الأم , فمن تشبه بقوم فهو منهم , و بالنسبة للمسلم
فالسنة كلها هي موسم تكريم و بر و إحسان ..
بصراحة , لقد أفسد علي التعليق الأخير
سروري بالخطبة و انتقلت أفكاري إلى سياق آخر و شعرت أن موضوع التشبه بالكفار لا بد
له من توضيح و تحرير .
خرجت من المسجد و رأيت ازدحام السيارات
التي تقف بشكل اعتباطي على الأرصفة و في منتصف الطريق . و رأيت الباعة ينشرون
بضاعتهم على الرصيف عند مدخل المسجد فيزيدون من الزحام و الفوضى . و رأيت الأوساخ
و القمامة تنتشر بشكل يند عن الذوق و الإحساس بالنظافة , فقلت في نفسي هل يظن هؤلاء أنهم
يتشبهون بالكفار لو أنهم اهتموا بترتيب أمورهم و تنظيم السيارات و المرور و تجميع القمامة والاعتناء بالنظافة ؟ نظرت حولي فلفت نظري لوحات و أسماء المحلات مكتوبة بالعربية
بما لايفهمه أحد من قحطان أو عدنان أو من العرب العاربة أو المستعربة – كريسبي ميل
! سوبر ماركت ! كانتكي تشيكن ! باسكين روبنز ! هارديز ! لارانشا ! سيتي ماكس ! . فقلت في نفسي : سبحان
الله , أي الأمرين أولى بوصفه تشبهاً بالكفار , أهذه الرطانة بلغة العلوج و التي
تنم عن استخذاء و انبهار و خضوع و انبطاح ثقافي و حضاري , أم موضوع تكريم الأمومة
و الأمهات و الذي شرحه خطيبنا بما يدل بلا ريب أنه من المعاني الإنسانية المشتركة
؟
إن التواصل و الأخذ و العطاء بين الحضارات
و الأمم و الشعوب أمر لا بد منه , و العزلة المطلقة غير ممكنة و غير مفيدة على
الإطلاق , فما الضابط الذي يحكم أن شيئاً من هذا التواصل يندرج تحت عنوان التشبه
بالكفار ؟
لا بد من التمييز في ثقافة كل شعب من
الشعوب بين أمرين : أولهما الأمور الإنسانية الفطرية المشتركة و التي تميز بني آدم
كمخلوق مكرم متميز بالعقل و الإدراك و ما ينتج عن ذلك من حكمة و ابداعات علمية أو
اختراعات لوسائل و أدوات أو طرق تنظيم و إدارة . و الأمر الثاني من ثقافة الشعوب
يتعلق بخصوصياتها اللغوية و العرقية أو التي تتعلق برؤيتها الكونية و ما ينعكس من
تلك الرؤية على سياساتها و فنونها و اسلوب و نمط حياتها .
فالقسم الأول من ثقافة الشعوب لا يتعلق
بإيمان أو كفر لأنه معانٍ انسانية مشتركة تتبادلها الشعوب دون حرج . و هي الحكمة –
ضالة المؤمن – التي نطلبها حيث وجدناها . و هي الأمر الذي جعل النبي صلى الله عليه
وسلم يأخذ بما أشار عليه سلمان يوم الخندق , فالوسائل الناتجة عن الحكمة العملية
لا هوية لها . و هي الأمر الذي جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعتمد نظام الديوان
الفارسي في تنظيم حركة الجهاد . و ما تواضع عليه الناس اليوم من اعتماد يوم للأم و
يوم للطفل و آخر للأرض و غير ذلك , هي مناسبات للتواصل عبر المشترك الإنساني
لتأكيد المبادئ و تقويم السياسات و تقييم الأداء و الإنجاز.
أما القسم الثاني المتعلق بما يلزم عن
الرؤية الكونية و خاصة إذا كانت تلك الرؤية هي التي سوغت وصف الكفر لتلك المجتمعات
. فالتشبه بما سوّغ إطلاق وصف الكفر على مجتمع من المجتمعات إقرار ضمني بالرضا و
القبول بنموذج حياة ينطوي على الفساد في التوجه . فالرؤية الكونية التي تضع
الإنسان في مركز الكون و تبرر الإسراف و التبذير و تسعى لتعظيم الإستهلاك و
استنزاف خيرات الأرض , و تسعى لتعظيم المتعة و تجعلها هدف الحياة الإنسانية , لا شك
أنها رؤية كونية جاحدة و التبني أو التشبه بما هو من مقتضياتها ينطوي على خطر كبير
. و الرؤية الكونية التي تتبنى منطقاً داروينياً يبرر البقاء للأشرس و لو كان ذلك
على حساب قتل الأبرياء و نشر الفساد في الحرث و النسل هي رؤية تضع الإنسان في مقام
الألوهية و لا ينتج عنها إلا التكبر و العسف و الظلم . و هنا يكمن الخطر عندما
يتبنى المرء الخصوصيات الثقافية – من لغة أو فنون أو نمط حياة – لمجتمع يتخذ من
تلك الرؤية العنصرية دينه و ديدنه بما
يتضمنه هذا التبني من إقرار ضمني بالرؤية الكونية المستعلية الظالمة .
فالتشبه بالكفار الذي يجب على المؤمن الحذر
منه هو التشبه الذي ينبع من الإقرار برؤيتهم الكونية و الإستخذاء لغلبتهم و
سيطرتهم و الشعور بالدونية و الهوان .
و العاقل هو الذي يسعى للكشف عن نواحٍ من
الثقافة الإنسانية المشتركة يحتفل بها ليقيم التواصل الإنساني على أسس من التنافس
على الخير " فاستبقوا الخيرات " و على أسس تنمي قاعدة التعارف على حساب
الأنانيات العرقية و الخصوصيات الثقافية . روى الإمام مسلم عن المستورد الفهري ، أنه قال لعمرو بن
العاص : " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " ، فقال عمرو : انظر ما تقول قال
: أقول لك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمرو : لئن قلت ذاك ، إن
فيهم لخصالا أربعا : إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين
وفقير وضعيف ، والرابعة حسنة جميلة : أمنعهم من ظلم الملوك .
فالعاقل هو الذي يستطيع أن يجعل من كل أمر إنساني مشترك " حلف
الفضول " الذي يساهم في ردم الفجوات و إقامة العلاقات المتوازنة التي تعترف
بالفضل و السبق لأهله .