Friday, 23 May 2014

آفات التدين

آفـــات الــتَــدَيـّـُـــن

خلق الله الإنسان من صلصال من حماٍ مسنون ثم سواه و نفخ فيه من روحه . و أنزل الله تبارك و تعالى الدين و الشرائعليخرج الناس من الظلمات إلى النور . فالإنسان لو ترك دون رسالة ترشده و ديانة تهديه لظهرت في تصرفاته و سلوكه هشاشة و خواء الصلصال و ظلمة الطين و نتن الحمأِ المسنون . فالدين و الشرائع هي من ذلك الروح الإلهي الذي يوجه الإنسان في معارج التزكية و الكمال ليحيا الحياة الطيبة في الدنيا و ينال السعادة في الآخرة على ما سعى في ضبط نوازع و رعونات الجبلة الطينية و كبح جماحها .         " و كذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان و لكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم " .
و لقد شهدت البشرية دورات من الصعود و الهبوط و الهدى و الضلالة , و كان الله سبحانه كلما شرد الناس و عمّ الفساد يبعث الرسل ليعيد الناس إليه و يذكرهم بعبوديتهم له, و يرسل من الشعائر و الشرائع ما يتناسب مع أحوال الأقوام و بيئاتهم و ظروف حياتهم . إلى أن أرسل الله سبحانه و تعالى خاتم الرسل محمد صلى الله عليه و سلم على فترة من الرسل , و جعل من خصائص شريعته أنها خاتمة و أنها عالمية, بكل ما تستلزمه الخاتمية و العالمية من المرونةو الشمول و التوازن , ليكون الدين مَعانٍ و حِكمٍ و مصالح معقولة منضبطة بالوحي , تستوعب الحاجات الإنسانية المشتركة و تسمح للنضوج الإنساني أن يبلغ مداه .
" اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً "
لقد اكتمل الدين عقيدة و شريعة , و مثّـله النبي صلى الله عليه و سلم نموذجاً بشرياً واقعياً , و تمت النعمة باكتمال شطريها – النظرية و النموذج – و رضي الله سبحانه لعباده الدين أن يكون إسلاماً يتمسكون به بطواعية و خضوع و طاعة و استسلام . فالإسلام هو اسم للملة السمحاء التي بعث بها محمد صلى الله عليه و سلم و لكن معنى الإسم و دلالاته اللغوية مقصودة كشرط لصحة التدين و صحة التمسك به لتحقق الملة غايتها الكونية " و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " .
و كان من تمام النعمة أن سجل القرآن الكريم ما وقعت به الأقوام السالفة من أخطاء و غلو في تدينهم و التزامهم بشريعتهم ليكون المسلمون على بينة , و لا يتشوه المنهج بأخطاء حامليه و من يمثله . فحذّر النبي صلى الله عليه و سلم أمته من التورط في أخطاء من سبقهم من أتباع الرسل : لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر و ذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . و كان العلماء العاملون المجددون يبينون و يوضحون ما وقعت فيه الأمة من ابتعاد عن حقيقة المنهج حتى يعود للدين معناه و يعود للشريعة دورها في تزكية الحياة .
و أول ما نبّه عليه القرآن الكريم من آفات التدين النفاق . ذلك الخلق من المراوغة و التلوّن و الإنتهازية الذي يُظهر الموافقة عندما تلوح المصلحة و المكاسب . فإذا جاءالإبتلاء و الإمتحان ظهرت حقيقة الكذب و الخداع . و إذا كان النفاق يعكس شكوكاً في أصل الإيمان , فهناك آفات أخرى للتدين لا تعكس شكاً في اصل الإيمان بقدر ما تعكس جهلاً بحقيقة الدين أو طبيعته و مقاصده و وظيفته في حياة الفرد أو الجماعة .
و هذا الجهل بحقيقة الدين و دوره هو الذي حمل الإمام الغزالي على تصنيف كتاب " إحياء علوم الدين " و الذي يقول في مقدمته : فأما علم طريق الآخرة و ما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقهاً و حكمةً و علماً و ضياءً و نوراً و هدايةً و رشداً فقد أصبح بين الخلق مطوياً و صار نسياً منسياً . . . . . و صدّرت الجملة بكتاب العلم . . . . و أحقق ميل أهل العصر عن شاكلة الصواب و انخداعهم بلامع السراب و اقتناعهم من العلوم بالقشر عن اللباب . . . . .فأما ربع العبادات فأذكر فيه من خفايا آدابها و دقائق سننها و أسرار معانيها ما يضطر العالم إليه , بل لا يكون من علماء الآخرة من لا يطّلع عليه , و أكثر ذلك مما أهمل في فنّ الفقهيات. اه
فالإهتمام بأشكال العبادات و صورها مع الغفلة عن دورها في التزكية و ربط القلب بالله و الأنس بمناجاته , هو السراب الخادع و هو القشور التي لا تغني عن لب العبادة و مقصدها . و كذلك فإن الإهتمام بإجرائيات المعاملات و شروطها و أشكالها مع الغفلة عن مقاصد تلك الإجرائيات و الشروط في تحقيق مصالح الأحكام و مقاصدها هو سراب خادع . فالعبرة بالمقاصد و المعاني لا بالأشكال و الألفاظ و المباني .
و من آفات التدين التي ابتلي بها اليهود و النصارى , الإنتقائية المزاجية في الأخذ أو الترك . فالله سبحانه خاطب اليهود مستنكراً هذه الإنتقائية قائلاً : أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض ؟ و وصف النصارى قائلاً : و من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذُكّروا به , فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء . و قد تسلل هذا الداء إلى المسلمين فترى الإنتقائية تتجلى عند بعضهم في الإهتمام بالعبادات و النوافل و الغفلة عن مراعاة حقوق الناس و حقوق الزوجة و الأولاد و الجيران , و كأن الإهتمام بالعبادات لم يؤدّ دوره في التزكية و اليقظة لأداء الحقوق و التنزه عن المظالم . و من أوضح تجليات هذه الإنتقائيةالإنسياق وراء ما تفرضه توجهات العلمنة و التغريب من تفريغ للفضاء العام من توجيهات الدين و صبغته  و استبدالها بالتوجهات الغربية الثقافية و الإقتصادية , فينحصر التدين عملياً في إطار الحياة الشخصية , فترى مظاهر الثقافة الإستهلاكية و التكاثر و التفاخر و الترف و السرف و تطبيع مظاهر السفاهة و التفاهة و الإهتمام بالكماليات و إهمال التكافل بما يزيد في الفجوة بين الفقراء و الأغنياء بكل ما تستتبعه من توتر و اضطراب اجتماعي لا يعكس الحياة الطيبة التي ينشدها الدين للمؤمنين .
و من آفات التدين التي ابتلي بها اليهود و النصارى الإدّعاء و التبجّـح بالنجاة لمجرد الإنتماء : و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه , قل فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ بل أنتم بشر ممن خلق . و قالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا , قل بل ملّـة إبراهيم حنيفاً و ما كان من المشركين . و خاطب القرآن الكريم محذراً أتباع محمد صلى الله عليه و سلم بقوله : ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب , من يعمل سوءاً يجزَ به .  لقد أعلن القرآن الكريم : إنّ الدين عند الله الإسلام . و من يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين . و لابد من فهم حقيقة هذا الإعلان حتى لا يقع أتباع محمد بما وقع به من كان قبلهم . فالدين يطلق في سياق الآيات على معنيين : أولهما : الحالة العقلية و القلبية من الخضوع و الإستسلام و الطاعة و الإنقياد . و هذا المعنى من الدين مماثل لقوله تعالى : يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . فالقلب السليم هو القلب الذي تمثل معاني الخضوع و الإستسلام و الطاعة و الإنقياد لله . فيكون معنى الآية متطابق مع قوله تعالى : و من يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه .
و المعنى الثاني للدين هو الملّـة أو النظام الشامل من العقائد و العبادات و الأخلاق و القيم التي تكفل الوصول إلى الحالة العقلية و القلبية لمعنى الدين .
و يكون معنى التدين على هذا أحد معنيين : العهد على الإلتزام بمدلول الدين من الخضوع و الطاعة و الإمتثال و الإنقياد لمقتضى القيم و المثل و الأخلاق . و المعنى الثاني هو الإنتساب إلى الملّة أو الهوية الجماعية . و هنا لا بد من التمييز بين نموذجين من الإنتساب إلى الملة , فالإنتساب المقبول للملة يتمثل في تبني الهوية الجماعية لأمة الإسلام أتباع محمد صلى الله عليه و سلم مع الإلتزام و العهد الواعي للوصول إلى الحالة القلبية لمعنى الدين من الخضوع و الإنقياد لمقتضى معنى الملة و مقاصدها . أما الإنتساب الثاني فهو انتساب جغرافي لهوية قوم يسكنون بقعة من الأرض مع حد أدنى من الشكليات و المظاهر و جهل أو تجاهل عملي لمقاصد الدين و معناه الأصلي . فما يفهمه هؤلاء – أصحاب الإنتساب الجغرافي – من الإعلان القرآني " و من يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه " لا يبتعد كثيراً عن تبجح أهل الكتاب بالتفرد و التميز . و هو انتساب لا تزكو به نفس و لا يرتفع به فساد .
و من آفات التدين التي ابتلي بها اليهود و النصارى الغلو و المبالغة و تجاوز الحد . فقد خاطب القرآن الكريم أهل الكتاب بقوله : قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق . و قوله : قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبلُ و أضلوا كثيراً و ضلوا عن سواء السبيل . و قد تسلل الغلو و التطرف إلى المسلمين بصور متعددة . و أول مظاهر الغلو و المبالغة ما وصفه الإمام الشاطبي بتجاوز الدعوى على القرآن و الإدعاء بأنه يحوي كل أنواع العلوم و المعارف بما يخرجه عن دوره و وظيفته بأنه كتاب هداية و تشريع . " إن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات و التعاليم و المنطق و علم الحروف و جميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون و أشباهها , و هذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح . " الموافقات .
 و من مظاهر الغلو و التطرف الذي تسلل إلى بعض المسلمين , المبالغة في وصف محمد صلى الله عليه و سلم و تجاوز ما وصفه به القرآن الكريم من البشرية و عدم معرفة الغيب . " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ " " قل لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير و ما مسّـنِيَ السوء ".  و ذلك مثل المبالغةالسمجة لصاحب البردة عندما خاطب النبي صلى الله عليه و سلم قائلاً  " و من علومك علم اللوح و القلمِ " .
و من مظاهر الغلو و التطرف الذي تسلل إلى بعض المسلمين حمل أعرافهم و عاداتهم المحلية على الشريعة و جعلها من مظاهر الدين و التدين , بكل ما يعنيه التشدد في ذلك من فتنة و صد عن دين الله و إهمال لمقاصد الدين و رحمته للعالمين . و لو نظر المرء– على سبيل المثال – إلى أعراف الزواج و متطلباته في بعض البيئات, لعلم مقدار ما تفرضه الأعراف من الحرج و الظلم و مقدار الفتنة عندما يرتبط ذلك الظلم بالدين و التدين.
و من أشنع مظاهر الغلو و التطرف الذي تسلل إلى بعض المسلمين استسهال وصف الناس بالكفر و استباحة دمائهم لمجرد المخالفة في الرأي أو بعض مظاهر السلوك. فترى هؤلاء ينصبون أنفسهم في مقام الفتوى و القضاء و تنفيذ الأحكام– مرّة واحدة– مع قلة في العلم و كثير من الحماس الجاهل و الجراءة الحمقاء على الحرمات . و قد عرف أمثال هؤلاء في العصر الإسلامي الأول بالخوارج , و لكنهم في هذا العصر أشكال و ألوان و أسماء و مجموعات مشبوهة تعمل بأمرة الطاغوت للفتنة و التشويه . فليس من قبيل المصادفة أن لا تظهر هذه المجموعات مدعومة بالمال و السلاح و التغطية الإعلامية , إلا عندما تتحرك الأمة مطالِـبة بالحرية و الكرامة , و أن يكون لدينها و هويتها مكان محترم في الفضاء العام و توجهات الثقافة و السياسة.
و من آفات التدين التي وقع فيها أهل الكتاب من اليهود و النصارى الإختلاف و التفرق . فقد حذّر الله سبحانه و تعالى المؤمنين من أمة محمد فقال : " و لا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات و أولئك لهم عذاب عظيم " . و عند استقراء الآيات التي وردت في النهي عن التفرق و الإختلاف نجد تلازماً بين الإختلاف المذموم و بين البغي على المخالفين الذي يؤدي إلى التفرق . فالإختلاف في الرأي هو ظاهرة غنىً و تنوع و خصوبة لتلاقح الأفكار و امكانية النمو و التطوير . و قد قرر العلماء أن على المؤمن ألا يضيق بالاختلاف في وجهات النظر، فالله سبحانه وتعالى ضمن الاجر والقبول لكل من عمل بما أداه اليه اجتهاده. والمؤمن في هذا مبتلي بالاختلاف الطبيعي المركوز في جبلة الناس وعقولهم وامكانياتهم، ليعلم الله سبحانه من لا يخرجه الاختلاف في الرأي عن الحب في الله وما وجب عليه لاخوته في الايمان، وليرى الله من عباده من يتجاوز الحد ويفجر في الخصومة ويخرجه الاختلاف في الرأي إلى التفرق و البعد عن اجواء المودة والرحمة والتعاطف.
و قد كتب الإمام ابن الجوزي كتابه " تلبيس ابليس " و بين في هذا الكتاب القيم طرق ابليس في خداع أصناف من البشر و كيف يلبّـس عليهم ليطمئنوا إلى ماهم فيه من الغفلة و الشرود . و قد استهل ابن الجوزي كتابه بفصل بعنوان لزوم الجماعة و ذكر فيه جملة من النصوص و النقول عن فضل لزوم الجماعة و التحذير من الشقاق و الإختلاف. و كأنه ينبه إلى أن الكثير مما يلبسه الشيطان على الخلق هو مما يلحق الضرر و الفساد على العامل في خاصة نفسه, و لكن أخطر ما يلبّـس به الشيطان على المؤمنين هو إفساد ذات البين و الشقاق و البغي الذي يفسد الأمن و الأمان و يفسد وحدة الجماعة و لحمة الإجتماع فلا يبقى مجال لاستقرار الحياة و قضاء المصالح. و في الفصل الثاني من الكتاب تحدث ابن الجوزي عن الإبتداع في الدين و أنه يشكل الخطر الأكبر لإفساد وحدة الأمة و تفريق شملها . و كذلك بين الإمام الشاطبي في كتابه " الإعتصام " ما تحدثه البدع في كيان الأمة من التمزق و التشرذم . و كذلك فعل الكثير من العلماء المصلحين المجددين و بينوا أن محاربة البدع في الدين و الإعتصام بالسنة هو الكفيل بترسيخ الوحدة الفكرية في الأمة و تجنيبها موارد التفرق و الهلاك .فالإلتزام بالرؤية الكونية الجامعة في قضايا الإعتقاد و الشعائر بلا زيادة و لا نقصان , و المرونة التي تشجع و تتقبل الجديد النافع من الوسائل و الطرق و التنظيمات و الترتيبات هي التي تكفل تأصيل الإسلام الرسالة الخاتمة رسالة عالمية مهمتها الكونية إنقاذ البشرية من ثقافة الإلحاد و العنصرية و المادية و الفساد .

Saturday, 10 May 2014

الـصـبــــــر


الــصـــــبــر

الصبر هو الخلق الذي يتواصى به الناس في الشدائد و مواقف المواساة رجاء أن ينالهم الوعد الإلهي الذي لا يتخلف " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " .

و أكثر الناس يتصورون الصبر هو الخيار الذي يلجأ إليه العبد الضعيف الذي لا حيلة له إلا أن ينسحب من دائرة الفعل و التأثير, و يوطن نفسه على مزيد من الإحتمال و الرضا و الكف عن الشكوى. و إذا كان هذا المعنى صحيحاً معتبراً عندما تكون الشدائد ابتلاءات إلهية لا حيلة للإنسان في دفعها كالزلازل و الفيضانات و الكوارث و مصائب النفس و المال, فإن حصر معنى الصبر في هذا الإطار و الإقتصار على هذا الجانب في التذكير و التواصي يحرم المؤمنين من خير عظيم تضمنته المعاني الأخرى للصبر و التي كانت معظم ما أشارت إليه آيات الصبر في القرآن الكريم .

·        عند استعراض آيات الصبر في القرآن الكريم و ملاحظة سياقها الذي وردت فيه نجد أن الصبر يحمل معنى القوة في الحق و الصلابة في التمسك به و الثبات على المبدأ في مواجهة ضغوط أهل الباطل و أذاهم و عربدتهم بما يملكون من قوة و نفوذ. و يسجل التاريخ أن هؤلاء الصابرين المتمسكين بالحق لم ينسحبوا من دائرة الفعل و التأثير بل هم الذين غيروا وجه الأرض عندما كشف ثباتُهم زيفَ الباطل و تفاهة منطقه و هشاشة قوته و هيلمانه.

" و لقد كُـذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُـذبوا و أوذوا حتى أتاهم نصرنا "

" فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل "

" فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك "

" و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون "

" لتبلون في أنفسكم و أموالكم , و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا , و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور"

فالصبر في أمثال هذه الآيات هو الثبات على الحق و التمسك به فلا يتطرق إلى النفس شك أو شبهة نتيجة موجات التكذيب و الإفتراء و الإستهزاء و الإزدراء. و هو الصبر الذي يحمي المؤمن من أن يتطرق إلى نفسه الوهن و الشعور بالمهانة و الإستخذاء, لأن شعوره بعزته و كرامته لا ينطلق من امكانياته المادية و منعته في قومه, بل من معرفته برفعة مبادئه و سمو قيمه و عدالة رسالته. و هو الصبر الذي يقدر عليه أولوا العزم حتى يعلم الله سبحانه استحقاقهم للنصر فيأتمنهم على دينه و شريعته.

·        و الصبر في القرآن الكريم يشير كذلك إلى قوة النفس و الإستعلاء بالإيمان على فتنة الزينة و بطر النعمة و خيلاء الغنى و الوفرة. يحدثنا القرآن الكريم عن قارون :

" فخرج على قومه في زينته, قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. و قال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحاً و ما يلقاها إلا الصابرون " فهؤلاء الصابرون لم تضعف نفوسهم و لم تنحل عرى تماسكهم أمام إغراء الزينة و صلف المظاهر,  لمعرفتهم أن العاقبة هي للعمل الصالح و ما ينفع الناس و ليست للأثرة و التكبر و الفساد في الأرض. فالضعفاء هم الذين انبهروا بالزينة و المظاهر, و أهل العزم و القوة  هم المؤمنون الصابرون.  

·        و الصبر في القرآن يشير كذلك إلى قوة النفس و التمكن من لجم رعوناتها و تماديها في مقام الإنتصاف للنفس و رغبة التشفي و الإنتقام من الظالمين. بل يبلغ الصبر من القدرة على توجيه المؤمنين إلى قمة أخلاقية سامقة لا يستطيعها إلا الواثقون بالأجر و المثوبة عند الله, إنها قمة الإحسان :

" و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير لللصابرين "

" و لا تستوي الحسنة و لا السيئة, ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم. و ما يلقاها إلا الذين صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم "

·        و أكثر الصبر في السور المدنية يشير إلى الثبات في مواقف المواجهة و الصراع و المرابطة و ما يتعلق بها من احتمال و استعلاء بالإيمان و صدق العهد مع الله :

" فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله و ما ضعفوا و ما استكانوا و الله يحب الصابرين "

" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصابرين "

" و أطيعوا الله و رسوله و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين "

فكل هذه الآفاق من معاني الصبر و مجالاته تدل على قوة العزيمة و قوة النفس و قوة الإيمان . و لذلك عرّف العلماء الصبر أنه حبس النفس على ما يقتضيه الإيمان و تقتضيه المروءة . و هذا ما جعل الإمام الغزالي يقول : ذكر الله الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات والدرجات إلى الصبر وجعلها ثمرة له. فهل يسوغ بعد هذا أن يضمر مفهوم الصبر إلى معنى واحد لا يحمل إلا عناصر السلبية و الإنسحاب ؟

و لعل التنبيه على ما يسببه اقتصار معنى الصبر على الإحتمال من الإختزال و التشويه لمعنى الصبر هو ما حمل ابن المقفع على أن يقول في " الأدب الكبير " : ليس الصبرُ الممدوحُ بأن يكون جِلدُ الرجلِ وقَاحاً على الضربِ، أو رجلهُ قويةً على المشي، أو يدهُ قويةً على العملِ. فإنما هذا من صفاتِ الحميرِ.                    ولكن الصبرَ الممدوحَ أن يكونَ للنفسِ غلوباً، وللأمورِ محتملاً، وفي الضراء متجمّلاً، و لنفسهِ عند الرأي والحفاظِ مرتبطاً, وللحزمِ مؤثِراً، وللهوى تاركاً، وللمشقةِ التي يرجو حسن عاقبتها مستخفّاً، وعلى مجاهدةِ الأهواء والشهواتِ مواظباً، ولبصيرتهِ بعزمهِ منفّذاً.

Saturday, 3 May 2014

الـتــوحـيــــد


التـــوحــــيـد

 

التوحيد هو المفهوم المركزي في التصور الإسلامي عن الكون و الوجود . و لا بد من دوام التفكير في شرحه و تبسيطه و عرضه ليكون من الوضوح و امكانية الفهم المباشر بشكل لا يترك مجالاً للشرك – وهو المفهوم المضاد للتوحيد – ليتسرب إلى قلوب المؤمنين و يفسد عليهم نقاء ايمانهم و صفاء رؤيتهم .

يعيش الإنسان في هذه الحياة و تمر به مواقف و تجارب و مشاعر و عواطف , و يتعرض لظواهر في الكون و نماذج من سلوك البشر . و المؤمن بالتوحيد لا يرى في كل ما يتعرض له إلا الله سبحانه و تعالى فاعلاً و مؤثراً و متجلياً في الوجود بأحد أسمائه الحسنى و صفاته أو مجموعة منها , فلا ينسب الفعل في كل ما يراه و يعانيه إلى الأسباب و ما جعله الله سبحانه وسائل و كيفيات لتجلي القدرة , بل ينسب الفعل إلى الله و يكون همه و ما يشغله هو كيف يستجيب لفعل الله و كيف يتأدب بالأدب الواجب لتجلي الأسماء و الصفات في قلبه و عقله و جوارحه . أما الذي يتعرض للمؤثرات و التجارب و تمر به ظواهر الكون فلا يرى إلا السبب المباشر فيقف عنده و لا يفكر في خالق الأسباب و جاعل الأمور على ما خصّصها به , فهو مبتلى بالشرك على درجات و مراتب قد تصل به إلى الكفر و الإلحاد عندما ينكر الصانع و يدّعي تأثيراً ذاتياً في ما يراه من مظاهر و ظواهر .

فالمؤمن مستغرَق بالرؤية الكلية للوجود , و التوحيد بالنسبة إليه طريقة فهم و إدراك و منهج استجابة و تفاعل . فالله سبحانه و تعالى هو في مركز هذه الرؤية و طريقة الفهم و منهج الإستجابة . و المشرك منحصر في الرؤية الجزئية لا يرى إلا السبب المباشر و لا يستجيب إلا في إطار ذاته و نفسه و هواه .

فالتوحيد و الشرك منهجان متقابلان في فهم الكون و التفاعل معه .

أخرج الحاكم في " المستدرك " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الشرك أخفى على أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء , و أدناه أن تحب على شيء من الجور أو تكره على شيء من العدل .

و في هذا الحديث يصل مدى ما يشمله مفهوم التوحيد أو الشرك إلى خفقة القلب و ميله بشيء من الحب أو الكره استجابة لموقف تعامل و تبادل . فمن كانت استجابته لمحاباة ظالمة من قريب أو صديق أن يزداد محبة للقريب و الصديق على ما حاباه و خصّه من حقوق غيره بغير وجه حق , فهذه الإستجابة تنطلق من الأنا و النفس و ما تهواه , و لا تعبأ بمقياس الحق و العدل أن يجنح أو يميل . و من كانت استجابته أن يجد في نفسه بعض الكراهية أو الغضب و الغيظ لأن صديقه أو قريبه عامله بالعدل و القسط و لم يزد له في حقه و لم يحابه لما يظنه من الدالّة عليه , فهذه الإستجابة كذلك تنطلق من الأنا و النفس و لا تعبأ بميزان الحق و العدل أن يجنح أو يميل . فالمؤمن تنضبط مشاعره بما وافق الحق و العدل و لا يجد في قلبه عند ذلك إلا الرضا و الإذعان . و يبدأ الشرك يتسلل إلى القلب عندما يبدأ دبيب تفضيل الأنا و المنفعة و المصلحة من حيث لا يعلم . و ليس ينجيه من هذا الشرك الخفي إلا اليقظة و الإستغفار . فيدعو ربه ويقول : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه و أستغفرك لما لا أعلمه .

أخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة ، فلما انصرف أقبل على الناس ، فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب ، وأما من قال : بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب "

و في هذا الحديث يعرض النبي صلى الله عليه و سلم مثالاً آخر لتجربة و موقف يمر بالناس و تختلف ردود أفعالهم و استجاباتهم على نموذجين اثنين هما التوحيد و الشرك . فالمطر ظاهرة طبيعية لها أسباب و شروط جعلها الله سبحانه قرينة و علامة على نزول المطر . فالمؤمن يستجيب لكل ما يراه و يعاينه بتذكر الحقيقة الكبرى أن الله سبحانه و تعالى هو الفاعل المؤثر و هو الخالق الرازق , ثم يصوغ عقله و قلبه بما يتوافق مع الحقيقة الكبرى و ما تقتضيه و تستلزمه , ثم لا يكون من جوارحه إلا أن تستجيب بما يقتضيه الفضل و الرحمة من الشكر و الخضوع و الإمتنان . أما الكافر الجاحد فلا يرى في نزول المطر إلا الأسباب القريبة و العلامات و الأمارات فيقف عندها معزولاً عن الحقيقة الكبرى و ما يجب لها , و يتسلل إلى قلبه غرور الإستحقاق و تطاول الأنا و لي و عندي بكل ما تحمله من جحود و كنود .

و المؤمن لا يغفل عن الأسباب و العلامات و القرائن و يعلم أنها جزء من النظام الذي وضعه الله سبحانه و قدّره في ملكه , فيتعامل معها بجدية و لا يتجاهلها أو يتجاوزها فذلك بالنسبة إلى المؤمن سوء أدب مع مالك الملك و مسبب الأسباب . و قد ذكر الإمام القرافي في كتابه " الفروق " قاعدة في الدعاء المحرَم فقال :

يجب على كل عاقل أن يفهم عوائد الله تعالى في خلقه و ربطه المسببات بالأسباب في الدنيا و الآخرة . فإذا سأل الداعي من الله تعالى تغيير مملكته و نقض نظامه و سلوك غير عوائده في ملكه كان مسيئاً الأدب عليه عزَ و جلَ .

و كذلك قرر الإمام الشاطبي في كتابه " الموافقات " ما أسماه القانون العظيم فقال :

جعل الله نتائج الاعمال تجري عادة على وزان الأسباب في الإستقامة و الإعوجاج. فمن التفت إلى المسبَبَات  [النتائج] من حيث كانت علامة على الأسباب في الصحة أو الفساد - لا من جهة أخرى - فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب على وزان ما شرع أو على خلاف ذلك .

فالمؤمن مبتلىً بأن يضبط عقله و قلبه بما يستدعيه التوحيد من فهم و خضوع , و مبتلىً في ذات الوقت بأن يتعامل مع الأسباب بجدية و لا يفرط في شيء منها و لا يتألى على الله طالباً ما يحب من استقامة النتائج مع التقصير في ما كُـلّف به من إعداد و استعداد .

لقد عانى المسلمون من تداعيات الخروج عن التوازن في قضية التوحيد مع اعتبار الأسباب ,  و في قضية إثبات طلاقة المشيئة الإلهية مع ثبات السنن , و تسرب إليهم العجز و الكسل و التفريط نتيجة الوهم بأن التوحيد يستدعي موقفاً متردداً من الخضوع و التدين بما وضع الله من أسباب و ما بثّـه من سنن . و لا بد من إعادة التوازن و معالجة التفريط .

و قد سن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم الأذكار و الأوراد يرددها العبد المؤمن صباح مساء و عند كل عمل يقدم عليه أو موقف يمر به . و كل هذه الأدعية و الأوراد و الأذكار تدور حول ربط قلب العبد بالله و التبرؤِ من الحول و القوة و طلب العون و الرشاد و التسديد من الله الذي بيده كل شيء . يفعل هذا و هو في سعي و عمل و جهاد و دأب يستفرغ وسعه و طاقته في فهم ما يلزمه فهمه من سنن و قوانين و أسباب و مقدمات ما يقوم به من عمل , يلتزم بمقتضياتها و يتأدب مع مالك الملك فيما وضع من سنن التسخير و أسباب قضاء الحوائج . فالأذكار و الأوراد – عند فهمها و تمثل معانيها – هي التي تربط القلب بمعنى التوحيد و تعيد التوازن إلى المؤمن وهو يكابد و يسعى و تستنقذ قلبه من الإستغراق مع عالم الأسباب بما ينسيه الحقيقة الكبرى في الوجود و واجبه نحوها في الخضوع و الإستسلام .