آفـــات الــتَــدَيـّـُـــن
خلق الله الإنسان من صلصال من حماٍ مسنون ثم سواه و نفخ فيه من روحه . و أنزل الله تبارك و تعالى الدين و الشرائعليخرج الناس من الظلمات إلى النور . فالإنسان لو ترك دون رسالة ترشده و ديانة تهديه لظهرت في تصرفاته و سلوكه هشاشة و خواء الصلصال و ظلمة الطين و نتن الحمأِ المسنون . فالدين و الشرائع هي من ذلك الروح الإلهي الذي يوجه الإنسان في معارج التزكية و الكمال ليحيا الحياة الطيبة في الدنيا و ينال السعادة في الآخرة على ما سعى في ضبط نوازع و رعونات الجبلة الطينية و كبح جماحها . " و كذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان و لكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم " .
و لقد شهدت البشرية دورات من الصعود و الهبوط و الهدى و الضلالة , و كان الله سبحانه كلما شرد الناس و عمّ الفساد يبعث الرسل ليعيد الناس إليه و يذكرهم بعبوديتهم له, و يرسل من الشعائر و الشرائع ما يتناسب مع أحوال الأقوام و بيئاتهم و ظروف حياتهم . إلى أن أرسل الله سبحانه و تعالى خاتم الرسل محمد صلى الله عليه و سلم على فترة من الرسل , و جعل من خصائص شريعته أنها خاتمة و أنها عالمية, بكل ما تستلزمه الخاتمية و العالمية من المرونةو الشمول و التوازن , ليكون الدين مَعانٍ و حِكمٍ و مصالح معقولة منضبطة بالوحي , تستوعب الحاجات الإنسانية المشتركة و تسمح للنضوج الإنساني أن يبلغ مداه .
" اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً "
لقد اكتمل الدين عقيدة و شريعة , و مثّـله النبي صلى الله عليه و سلم نموذجاً بشرياً واقعياً , و تمت النعمة باكتمال شطريها – النظرية و النموذج – و رضي الله سبحانه لعباده الدين أن يكون إسلاماً يتمسكون به بطواعية و خضوع و طاعة و استسلام . فالإسلام هو اسم للملة السمحاء التي بعث بها محمد صلى الله عليه و سلم و لكن معنى الإسم و دلالاته اللغوية مقصودة كشرط لصحة التدين و صحة التمسك به لتحقق الملة غايتها الكونية " و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " .
و كان من تمام النعمة أن سجل القرآن الكريم ما وقعت به الأقوام السالفة من أخطاء و غلو في تدينهم و التزامهم بشريعتهم ليكون المسلمون على بينة , و لا يتشوه المنهج بأخطاء حامليه و من يمثله . فحذّر النبي صلى الله عليه و سلم أمته من التورط في أخطاء من سبقهم من أتباع الرسل : لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر و ذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . و كان العلماء العاملون المجددون يبينون و يوضحون ما وقعت فيه الأمة من ابتعاد عن حقيقة المنهج حتى يعود للدين معناه و يعود للشريعة دورها في تزكية الحياة .
و أول ما نبّه عليه القرآن الكريم من آفات التدين النفاق . ذلك الخلق من المراوغة و التلوّن و الإنتهازية الذي يُظهر الموافقة عندما تلوح المصلحة و المكاسب . فإذا جاءالإبتلاء و الإمتحان ظهرت حقيقة الكذب و الخداع . و إذا كان النفاق يعكس شكوكاً في أصل الإيمان , فهناك آفات أخرى للتدين لا تعكس شكاً في اصل الإيمان بقدر ما تعكس جهلاً بحقيقة الدين أو طبيعته و مقاصده و وظيفته في حياة الفرد أو الجماعة .
و هذا الجهل بحقيقة الدين و دوره هو الذي حمل الإمام الغزالي على تصنيف كتاب " إحياء علوم الدين " و الذي يقول في مقدمته : فأما علم طريق الآخرة و ما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقهاً و حكمةً و علماً و ضياءً و نوراً و هدايةً و رشداً فقد أصبح بين الخلق مطوياً و صار نسياً منسياً . . . . . و صدّرت الجملة بكتاب العلم . . . . و أحقق ميل أهل العصر عن شاكلة الصواب و انخداعهم بلامع السراب و اقتناعهم من العلوم بالقشر عن اللباب . . . . .فأما ربع العبادات فأذكر فيه من خفايا آدابها و دقائق سننها و أسرار معانيها ما يضطر العالم إليه , بل لا يكون من علماء الآخرة من لا يطّلع عليه , و أكثر ذلك مما أهمل في فنّ الفقهيات. اه
فالإهتمام بأشكال العبادات و صورها مع الغفلة عن دورها في التزكية و ربط القلب بالله و الأنس بمناجاته , هو السراب الخادع و هو القشور التي لا تغني عن لب العبادة و مقصدها . و كذلك فإن الإهتمام بإجرائيات المعاملات و شروطها و أشكالها مع الغفلة عن مقاصد تلك الإجرائيات و الشروط في تحقيق مصالح الأحكام و مقاصدها هو سراب خادع . فالعبرة بالمقاصد و المعاني لا بالأشكال و الألفاظ و المباني .
و من آفات التدين التي ابتلي بها اليهود و النصارى , الإنتقائية المزاجية في الأخذ أو الترك . فالله سبحانه خاطب اليهود مستنكراً هذه الإنتقائية قائلاً : أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض ؟ و وصف النصارى قائلاً : و من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذُكّروا به , فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء . و قد تسلل هذا الداء إلى المسلمين فترى الإنتقائية تتجلى عند بعضهم في الإهتمام بالعبادات و النوافل و الغفلة عن مراعاة حقوق الناس و حقوق الزوجة و الأولاد و الجيران , و كأن الإهتمام بالعبادات لم يؤدّ دوره في التزكية و اليقظة لأداء الحقوق و التنزه عن المظالم . و من أوضح تجليات هذه الإنتقائيةالإنسياق وراء ما تفرضه توجهات العلمنة و التغريب من تفريغ للفضاء العام من توجيهات الدين و صبغته و استبدالها بالتوجهات الغربية الثقافية و الإقتصادية , فينحصر التدين عملياً في إطار الحياة الشخصية , فترى مظاهر الثقافة الإستهلاكية و التكاثر و التفاخر و الترف و السرف و تطبيع مظاهر السفاهة و التفاهة و الإهتمام بالكماليات و إهمال التكافل بما يزيد في الفجوة بين الفقراء و الأغنياء بكل ما تستتبعه من توتر و اضطراب اجتماعي لا يعكس الحياة الطيبة التي ينشدها الدين للمؤمنين .
و من آفات التدين التي ابتلي بها اليهود و النصارى الإدّعاء و التبجّـح بالنجاة لمجرد الإنتماء : و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه , قل فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ بل أنتم بشر ممن خلق . و قالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا , قل بل ملّـة إبراهيم حنيفاً و ما كان من المشركين . و خاطب القرآن الكريم محذراً أتباع محمد صلى الله عليه و سلم بقوله : ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب , من يعمل سوءاً يجزَ به . لقد أعلن القرآن الكريم : إنّ الدين عند الله الإسلام . و من يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين . و لابد من فهم حقيقة هذا الإعلان حتى لا يقع أتباع محمد بما وقع به من كان قبلهم . فالدين يطلق في سياق الآيات على معنيين : أولهما : الحالة العقلية و القلبية من الخضوع و الإستسلام و الطاعة و الإنقياد . و هذا المعنى من الدين مماثل لقوله تعالى : يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . فالقلب السليم هو القلب الذي تمثل معاني الخضوع و الإستسلام و الطاعة و الإنقياد لله . فيكون معنى الآية متطابق مع قوله تعالى : و من يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه .
و المعنى الثاني للدين هو الملّـة أو النظام الشامل من العقائد و العبادات و الأخلاق و القيم التي تكفل الوصول إلى الحالة العقلية و القلبية لمعنى الدين .
و يكون معنى التدين على هذا أحد معنيين : العهد على الإلتزام بمدلول الدين من الخضوع و الطاعة و الإمتثال و الإنقياد لمقتضى القيم و المثل و الأخلاق . و المعنى الثاني هو الإنتساب إلى الملّة أو الهوية الجماعية . و هنا لا بد من التمييز بين نموذجين من الإنتساب إلى الملة , فالإنتساب المقبول للملة يتمثل في تبني الهوية الجماعية لأمة الإسلام أتباع محمد صلى الله عليه و سلم مع الإلتزام و العهد الواعي للوصول إلى الحالة القلبية لمعنى الدين من الخضوع و الإنقياد لمقتضى معنى الملة و مقاصدها . أما الإنتساب الثاني فهو انتساب جغرافي لهوية قوم يسكنون بقعة من الأرض مع حد أدنى من الشكليات و المظاهر و جهل أو تجاهل عملي لمقاصد الدين و معناه الأصلي . فما يفهمه هؤلاء – أصحاب الإنتساب الجغرافي – من الإعلان القرآني " و من يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه " لا يبتعد كثيراً عن تبجح أهل الكتاب بالتفرد و التميز . و هو انتساب لا تزكو به نفس و لا يرتفع به فساد .
و من آفات التدين التي ابتلي بها اليهود و النصارى الغلو و المبالغة و تجاوز الحد . فقد خاطب القرآن الكريم أهل الكتاب بقوله : قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق . و قوله : قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبلُ و أضلوا كثيراً و ضلوا عن سواء السبيل . و قد تسلل الغلو و التطرف إلى المسلمين بصور متعددة . و أول مظاهر الغلو و المبالغة ما وصفه الإمام الشاطبي بتجاوز الدعوى على القرآن و الإدعاء بأنه يحوي كل أنواع العلوم و المعارف بما يخرجه عن دوره و وظيفته بأنه كتاب هداية و تشريع . " إن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات و التعاليم و المنطق و علم الحروف و جميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون و أشباهها , و هذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح . " الموافقات .
و من مظاهر الغلو و التطرف الذي تسلل إلى بعض المسلمين , المبالغة في وصف محمد صلى الله عليه و سلم و تجاوز ما وصفه به القرآن الكريم من البشرية و عدم معرفة الغيب . " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ " " قل لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير و ما مسّـنِيَ السوء ". و ذلك مثل المبالغةالسمجة لصاحب البردة عندما خاطب النبي صلى الله عليه و سلم قائلاً " و من علومك علم اللوح و القلمِ " .
و من مظاهر الغلو و التطرف الذي تسلل إلى بعض المسلمين حمل أعرافهم و عاداتهم المحلية على الشريعة و جعلها من مظاهر الدين و التدين , بكل ما يعنيه التشدد في ذلك من فتنة و صد عن دين الله و إهمال لمقاصد الدين و رحمته للعالمين . و لو نظر المرء– على سبيل المثال – إلى أعراف الزواج و متطلباته في بعض البيئات, لعلم مقدار ما تفرضه الأعراف من الحرج و الظلم و مقدار الفتنة عندما يرتبط ذلك الظلم بالدين و التدين.
و من أشنع مظاهر الغلو و التطرف الذي تسلل إلى بعض المسلمين استسهال وصف الناس بالكفر و استباحة دمائهم لمجرد المخالفة في الرأي أو بعض مظاهر السلوك. فترى هؤلاء ينصبون أنفسهم في مقام الفتوى و القضاء و تنفيذ الأحكام– مرّة واحدة– مع قلة في العلم و كثير من الحماس الجاهل و الجراءة الحمقاء على الحرمات . و قد عرف أمثال هؤلاء في العصر الإسلامي الأول بالخوارج , و لكنهم في هذا العصر أشكال و ألوان و أسماء و مجموعات مشبوهة تعمل بأمرة الطاغوت للفتنة و التشويه . فليس من قبيل المصادفة أن لا تظهر هذه المجموعات مدعومة بالمال و السلاح و التغطية الإعلامية , إلا عندما تتحرك الأمة مطالِـبة بالحرية و الكرامة , و أن يكون لدينها و هويتها مكان محترم في الفضاء العام و توجهات الثقافة و السياسة.
و من آفات التدين التي وقع فيها أهل الكتاب من اليهود و النصارى الإختلاف و التفرق . فقد حذّر الله سبحانه و تعالى المؤمنين من أمة محمد فقال : " و لا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات و أولئك لهم عذاب عظيم " . و عند استقراء الآيات التي وردت في النهي عن التفرق و الإختلاف نجد تلازماً بين الإختلاف المذموم و بين البغي على المخالفين الذي يؤدي إلى التفرق . فالإختلاف في الرأي هو ظاهرة غنىً و تنوع و خصوبة لتلاقح الأفكار و امكانية النمو و التطوير . و قد قرر العلماء أن على المؤمن ألا يضيق بالاختلاف في وجهات النظر، فالله سبحانه وتعالى ضمن الاجر والقبول لكل من عمل بما أداه اليه اجتهاده. والمؤمن في هذا مبتلي بالاختلاف الطبيعي المركوز في جبلة الناس وعقولهم وامكانياتهم، ليعلم الله سبحانه من لا يخرجه الاختلاف في الرأي عن الحب في الله وما وجب عليه لاخوته في الايمان، وليرى الله من عباده من يتجاوز الحد ويفجر في الخصومة ويخرجه الاختلاف في الرأي إلى التفرق و البعد عن اجواء المودة والرحمة والتعاطف.
و قد كتب الإمام ابن الجوزي كتابه " تلبيس ابليس " و بين في هذا الكتاب القيم طرق ابليس في خداع أصناف من البشر و كيف يلبّـس عليهم ليطمئنوا إلى ماهم فيه من الغفلة و الشرود . و قد استهل ابن الجوزي كتابه بفصل بعنوان لزوم الجماعة و ذكر فيه جملة من النصوص و النقول عن فضل لزوم الجماعة و التحذير من الشقاق و الإختلاف. و كأنه ينبه إلى أن الكثير مما يلبسه الشيطان على الخلق هو مما يلحق الضرر و الفساد على العامل في خاصة نفسه, و لكن أخطر ما يلبّـس به الشيطان على المؤمنين هو إفساد ذات البين و الشقاق و البغي الذي يفسد الأمن و الأمان و يفسد وحدة الجماعة و لحمة الإجتماع فلا يبقى مجال لاستقرار الحياة و قضاء المصالح. و في الفصل الثاني من الكتاب تحدث ابن الجوزي عن الإبتداع في الدين و أنه يشكل الخطر الأكبر لإفساد وحدة الأمة و تفريق شملها . و كذلك بين الإمام الشاطبي في كتابه " الإعتصام " ما تحدثه البدع في كيان الأمة من التمزق و التشرذم . و كذلك فعل الكثير من العلماء المصلحين المجددين و بينوا أن محاربة البدع في الدين و الإعتصام بالسنة هو الكفيل بترسيخ الوحدة الفكرية في الأمة و تجنيبها موارد التفرق و الهلاك .فالإلتزام بالرؤية الكونية الجامعة في قضايا الإعتقاد و الشعائر بلا زيادة و لا نقصان , و المرونة التي تشجع و تتقبل الجديد النافع من الوسائل و الطرق و التنظيمات و الترتيبات هي التي تكفل تأصيل الإسلام الرسالة الخاتمة رسالة عالمية مهمتها الكونية إنقاذ البشرية من ثقافة الإلحاد و العنصرية و المادية و الفساد .