أمثال القرآن
زخرت آيات القرآن الكريم بالأمثال التي ضربت لبيان المعاني و تقريب الفهم و شرح المقصود . و بينت الآيات أهمية الأمثال في توضيح المعاني و معرفة الأشباه و النظائر بقوله تعالى " و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون ". فالعالمون هم الذين يدركون مواضع العبرة في الأمثال , و هم الذين يكشفون ما خفي من تجليات الهداية بما يستطيعونه من الربط و الوصل بين الصور التي يعرضها المثل و مواطن الهداية و ما خفي من المعاني التي يشرحها المثل و يبسطها.
و درج علماء اللغة و التفسير عند الحديث عن أمثال القرآن على اعتبار المعنى المراد من الأمثال محصوراً في الصورة الإجمالية المرسومة بالمثل , و أن العبرة تكمن في مطابقة حال من يضرب لهم المثل للصورة الإجمالية الكلية للتشبيه أو المثل . و يذهب علماء اللغة و التفسير إلى أبعد من مجرد تقرير القاعدة فيؤكدون أن أجزاء المثل و عناصر صورته ليست مقصودة و لا معتبرة في تعيين المعنى و استنباط الحِكَم و العِـبَر .
و قد صرح الإمام الزمخشري في الكشاف عند شرح المثلين الأولين في سورة البقرة بهذه القاعدة فقال : و الصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه أن التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة , لا يتكلف الواحد واحد شيء يقدر شبهه به. و هو القول الفحل و المذهب الجزل . بيانه أن العرب تأخذ بأشياء فرادى , معزولاً بعضها من بعض , لم يأخذ هذا بحـجزة ذاك فتشبهها بنظائرها , كما فعل امرؤ القيس و جاء في القرآن . و تشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت و تلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً بأخرى مثلها . فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض و مصيره شيئاً واحداً , فلا .
و عند استعراض تفاسير القرآن و ما قرره المفسرون عند شرح أمثال القرآن نجد أن المفسرين قد التزموا بهذه القاعدة التي يقررها الإمام الزمخشري إلى حدٍ بعيد .
و قد لفت نظري عند تناول بعض أمثال القرآن بالشرح و التفصيل أن بعض العلماء المحدثين تناولوا بعض أمثال القرآن و عرضوا معانيها و دروسها بمنهج آخر لا يقف عند حدود الصورة الإجمالية بل يتجاوزها إلى أجزاء و تفاصيل صورة المثل ليستـنتج من كل جزء من أجزاء المثل عبرة و حكمة أو معنىً تربوي أو أخلاقي معرضين في ذلك عن تقرير علماء اللغة و التفسير .
فـفي معرض بيان أهمية الأمثال كوسيلة من وسائل التربية و البيان التي يحرص الداعية على الإستعانة بها , شرح الأستاذ البهي الخولي في كتاب " تذكرة الدعاة " المثل القرآني : " أنزل من السماء ماءً , فسالت أودية بقدرها , فاحتمل السيل زبداً رابياً " . و جاء بالكثير من المعاني الطيبة التي استخرجها من مقارنات عقدها بين عناصر المثل و جزئياته و بين المعاني التربوية التي جاء المثل لتوضيحها و بيانها . فقال – رحمه الله -
هذه صورة من الصور التي تجري تحت سمع الناس و بصرهم . . . الماء ينزل فيسيل في أودية الأرض , فيجري في كل منها بقدر , فيطفو على وجه السيل زبد كثير . . . و لكن ما المراد بهذه الصورة ؟ . . . إن الله عز و جل لا يريد ظاهر معناها . فإنه يذكر في آخر الآية " كذلك يضرب الله الحق و الباطل " و " كذلك يضرب الله الأمثال " . فما مضرب المثل هنا ؟
جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم , كمثل غيث أصاب أرضاً , فكان منها طائفة , الخ. . . . و رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق من نأخذ عنه تفسير القرآن العظيم , و هو في هذا الحديث يشبه ما نزل به الوحي من الهدى و العلم بالمطر , و لنا على ضوء هذا التفسير النبوي أن نرى الآية القرآنية أو المثل القرآني الذي نحن بصدده , مؤلفاً من العناصر الأربعة التالية :
1 – قد جاءنا من الله علم و هدى , مثله كمثل الغيث المبارك .
2 – و الذين جاءهم هذا الهدى و العلم كالأرض التي ينزل عليها الغيث .
3 – و هذا الهدي الإلهي يجري في بواطن أهله و أعماق قلوبهم , كما يجري الغيث في أعماق الأرض و أوديتها . . . و قلوب الناس تقبل من هدي الله و علمه بحسب طبيعتها من الضيق و السعة , كما يقبل كل واد من أودية الأرض قدراً من الغيث , يناسب سعته و ضيقه .
4 – و كل ما مضى ليس هو لب العبرة في المثل , إنما لب العبرة ما ذكره الله سبحانه في قوله : " فاحتمل السيل زبداً رابياً " . . . و الزبد رغوة لينة ذات فقاقيع تظهر على وجه الماء , ثم لا تلبث أن تذهب جفاء , تاركة تحتها الماء الصريح النافع . . . و ذلك تمثيل الحق و الباطل . فالباطل في تفاهته و سرعة زواله كرغوة الزبد . . . و الحق في أصالة وجوده و عموم نفعه , كالماء الذي لا حياة للوادي بدونه : " كذلك يضرب الله الحق و الباطل , فأما الزبد فيذهب جفاءً و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض , كذلك يضرب الله الأمثال "
هذه عناصر المثل , و لك أن تتوسع في الشرح بما لا يخرج عن أصول هذه العناصر.
فالله سبحانه وتعالى أنزل الماء من السماء فجعل منه كل شيء حي في عالم المادة , و اقتضت حكمته أن ينزل للأحياء الروحية ما به حياتها و غذاؤها . . . . و هذا الذي أنزله الله للقلوب و الرواح , مقابل الماء الذي أنزله للأبدان هو الوحي الذي أنزله على رسوله من لدن آدم أبي البشر , إلى خاتمهم و إمامهم سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم , و هذا الوحي روح القلوب و سر حياتها , فإذا لبسها و تسرب فيها , حيت و استنارت و أشرقت و أدى لها ما يؤدي الماء للأجسام . . . . .
و يمكن أن يقال في العنصر الثاني من المثل :
إن حياة النفوس في هدى الله عز و جل , و لا حياة لها بغيره , كما أن حياة الأرض فيما أنزل الله لها من الماء , و محال أن تجد الأرض رياً تحيا به في غير هذا الماء . . . فالذين يطلبون أن تحيا نفوسهم بغير ما أنزل الله , من مدنيات زائفة أو علوم خالية من الروح , أو يظنونها تحيا بكثرة ما يجمعون من عرض الدنيا و متاعها , إنما يضربون في الوهم , بل يخبطون في أودية الموت , إذ لا موت إلا فيما يطلبون و لا حياة إلا فيما يعرضون عنه . . . . . و نستطيع أن نمضي في الإستشهاد لهذا المعنى بالكثير من آيات القرآن الكريم التي وردت في إحياء الأرض بالمطر بعد موتها , و هي مسبوقة أو ملحوقة بما يمس حياة النفوس و زكاة القلوب .
و هنا نحب أن نتساءل : ما علامة تلك الحياة إذا سرت في هذا الكائن الروحي ؟
و قد أورد الأستاذ الخولي رحمه الله مجموعة كريمة من المشاعر و الوجدانات من مصادرها من القرآن الكريم و الأحاديث النبوية يجدها المؤمن في نفسه حين يخالط الإيمان روحه و قلبه و عقله . و جاء في ذلك بكلام طيب مؤثر لم ننقله خوف الإطالة .
و يمكن أن يقال في العنصر الثالث :
إن الأودية تختلف سعة و ضيقاً , فأعظمها شأناً أكثرها ماءً , و أبعدها عمقاً و اتساعاً , و أصلحها لإمداد الأرض بالماء . . . . و كذلك الناس تتفاوت قلوبهم في تقبل أمر الله , فمنهم من يمتلئ و يتضلع و يتقبل الكثير الغزير الذي يغمر أفاق نفسه الرحيبة , و منهم من يقبل دون ذلك . . . . هذا , و لكل واد طاقة يتقبل الماء بقدرها , فإذا أمد بما فوق طاقته كان طغياناً و تخريباً و تدميراً و إتلافاً . و كذلك لكل نفس طاقة تقف عندها في تقبل هدى الله و علمه , فإذا أراد المرء أن يحمل فوق طاقته ,تمزق بالجنون أو الهزال أو المرض أو الشك : " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق , فإن المنبت لا أرضاً قطع و لا ظهراً أبقى " . . . . .
و الوادي قبل أن ينحدر إليه السيل يكون جافاً به كثير مما حملت إليه الرياح من التراب و الأرواث و القش و قطع الخلقان و الجلد و شابه ذلك , فإذا جاء السيل كسح ذلك كله و طهر جوف الوادي منه و رفعه إلى وجه الماء ليطرده و يقذف به إلى الخارج . و كذلك هدى الله إذا جرى في قلوب العباد طهرها و أزال ما فيها من أكدار الطبائع و دنسها , فلا يبقى شيء منها في قرارات القلوب بل تطفو متخذة طريقها إلى الزوال السريع . . . . و في هذا إشارة دقيقة حكيمة إلى حظوظ الشيطان في النفوس البشرية قبل أن يجري فيها وحي الله فيرويها و يطهرها . . . .
يصل شرح المثال إلى موضع العبرة فيه . . . . فالزبد هو رغوة لينة ذات فقاقيع تظهر على وجه الماء حين يتخلل مسام الأرض و يتسرب في ذراتها و شقوقها أو حين يمخضه الجريان بين جانبي الوادي أو حين يضطرب لسبب من الأسباب . . . و لا يلبث أن تنشق فقاقيعه و تذهب رغوته إلى لا شيء .
فمن اين جاء الزبد و ما أصله ؟ تساؤل يكشف لك تفاهة الباطل و هوان شأنه .
ليس الزبد عنصراً من عناصر الماء و لا هو يمت إلى طبيعته بصلة , كل ما يمكن قوله في هذا المقام أنه ظاهرة عارضة تتألف على وجه الماء من غازات منتفخة و هباء لا يؤبه له , يجتمع بعضه إلى بعض و يؤلف بينه ليونة يستعيرها من الماء , أفترى في ذلك شيئاً له وجود يعتد به ؟
ليونة أو طراوة مستعارة من الماء و ليست أصيلة فيه لا تلبث أن تتبخر فيتبخر معها كل شأن له فإذا هو لا شيء . و كذلك شأن الباطل يحاول أن يستر نفسه بطلاء مستعار من الحق يحسب به أنه على شيء . . . . . .
و بعد , هل تكلمنا عن حقيقة الزبد ؟ . . . . بقيت تلك الغازات التي لولاها ماربا الزبد و لا تجمع من الهباء ذلك اللاشيء . يقول العلم إنها غازات تكونت من عفونة أجسام تحللت و فسدت ببعض عوامل التحلل و الفساد .
تبارك شأن الله في دقة التحليل و روعة التصوير ! ! نعم فهذه الغازات العفنة المتحللة يقابلها في المثل أهواء المرء و شهواته و نزواته , فإذا كانت الغازات هي العامل الأساسي لتكوين الزبد فإن أهواء المرء و شهواته و تعلقها بهباء من حطام الدنيا هي العامل الأساسي لوجود كل باطل في هذه الأرض .
و لكن أي شيء في الإنسان ضربه العفن و أدركه التغير و الفساد حتى صعدت منه تلك الغازات , أو تلك الأهواء و الشهوات الفاسدة ؟
نعم , لا شيء في الإنسان أدركه العفن , فقد جاء بالعفن في جبلته الأولى مذ خلقه الله من ماء مهين و حمإ مسنون متغير الرائحة . . . . و لا شك أن من رحمة الله أن الماء المتجدد الطهور في الوادي يأتي على مضار ذلك العفن فيخففها أو يزيلها كأن لم تكن فلا تكون مصدر إيذاء لأحد , لا برائحتها الكريهة و لا بجراثيمها القاتلة . . .
و يمضي الشيخ و يسترسل في شرح حكم المثل ببيان أوجه التماثل بين جزئيات عناصر المثل و ما يمكن أن يستنبط منه بشكل ميسر لا نرى فيه أثر التكلف و الغموض . و ذلك ما حملنا على أن نعرضه نموذجاً طيباً لطريقة جديدة في تناول شرح أمثال القرآن .
و كذلك شرح الدكتور عبد الله دراز في كتاب " النبأ العظيم " المثل القرآني في أول سورة البقرة " مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً " و المثل " أو كصيبٍ من السماء فيه ظلمات و رعد و برق " و جاء في شرحه لهذين المثلين بالمطرب المعجب من عجائب ارتباط جزئيات المثل و عناصر صورته بالعبر و الحكم التربوية و الأخلاقية , كل ذلك بمنهج رصين يستند إلى اللغة و يربط معاني الآيات بما يماثلها في آيات أخرى و أحاديث نبوية ترشح و تقوي ما ذهب إليه من دلالات المثل و عبره و دروسه .
كتب الشيخ دراز " رحمه الله " في الفصل " نظام عقد المعاني في سورة البقرة " و في بيان مقدمة السورة ( الآيات 1-20) فقال :
.... أول ما تتشوف إليه النفس بعد سماع هذا الوصف البليغ للقرآن و هدايته هو تعرف الأثر الذي سيحدثه في الناس و مقدار إجابتهم لدعوته . فمست الحاجة إلى أن ينساق الحديث لبيان هذه الحقيقة العجيبة , و هي انقسام الناس في شأنه إلى فئات ثلاث : فئة تؤمن به , و فئة كافرة , و ثالثة مترددة حائرة , لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء .
... على أن هذه الأوصاف التحقيقية للطائفتين ( الكافرين و المنافقين ) لم تكن وحدها لتشفي النفس من العجب في أمرهم , . . . . . لذلك ضرب الله لكلتا الطائفتين مثلاً يناسبها . فضرب مثلاً للمصرين المختوم على قلوبهم بقوم كانوا يسيرون في ظلام الليل فقام فيهم رجل استوقد لهم ناراً يهتدون بضوئها , فلما أضاءت ما حوله لم يفتح بعض القوم أعينهم لهذا الضوء الباهر , بل لأمر ما سُلبوا نور أبصارهم و تعطلت سائر حواسهم عند هذه المفاجأة , فذلك مثل النور الذي طلع به محمد صلى الله عليه و سلم في تلك الأمة الأمية على فترة من الرسل , فتفتحت له البصائر المستنيرة هنا و هناك , لكنه لم يوافق أهواء المستكبرين الذين ألفوا العيش في ظلام الجاهلية , فلم يرفعوا رأساً بل نكسوا على رؤوسهم و لم يفتحوا له عيناً بل خروا عليه صماً و عمياناً ( قل هو للذين آمنوا هدى و شفاء , و الذين لا يؤمنون هو عليهم عمى ) .
و ضرب مثلاً للمترددين المخادعين بقوم جادتهم السماء بغيث منها في ليلة ذات رعود و بروق . فأما الغيث فلم يلقوا له بالاً , و لم ينالوا نيلاً , فلا شربوا منه قطرة و لا استنبتوا به ثمرة , و لا سقوا به زرعاً و لا ضرعاً . و أما التقلبات الجوية من الظلمات و الرعد و البرق فكانت هي مثار اهتمامهم , و مناط تفكيرهم , و لذلك جعلوا يترصدونها و يدبرون أمرهم على وفقها , لابسين لكل حال لبوسها : سيراً تارة , و وقوفاً تارة , و اختفاء تارة أخرى .
ذلك مثل القرآن الذي أنزله الله غيثاً تحيا به القلوب . و تنبت به ثمرات الأخلاق الزكية و الأعمال الصالحة , ثم ابتلي المؤمنون بالجهاد و القتال و جعل لهم الأيام دولاً بين السلم و الحرب , و بين الغلب و النصر . فما كان حظ بعض الناس منه إلا أن لبسوا شعاره على جلودهم دون أن يشربوا حبه في قلوبهم أو يتذوقوا ما فيه غذاء الأرواح و العقول , بل أهمتهم أنفسهم و شغلتهم حظوظهم العاجلة فحصروا كل تفكيرهم فيما قد يحيط به من مغانم يمشون إليها , أو مغارم يتقونها , أو مآزق تقفهم منه موقف الروية و الإنتظار و هكذا ساروا في التدين به سيراً متعرجاً متقلباً مبنياً على قاعدة الربح و الخسر و السلامة الدنيوية . فكانوا إذا رأوا عرضاً قريباً و سفراً قاصداً و برقت لهم ( بروق ) الأمل في الغنيمة ساروا مع المؤمنين جنباً إلى جنب . و إذا دارت رحى الحرب و انقضّت ( صواعقها ) منذرة بالموت و الهزيمة أخذوا حذرهم و فروا من وجه العدو قائلين – إن بيوتنا عورة - , أو رجعوا من بعض الطريق قائلين – لو نعلم قتالاً لاتبعناكم - . حتى إذا كانت الثالثة فلم يلمحوا من الآمال بارقة و لم يتوقعوا من الآلام صاعقة بل اشتبهت عليهم الأمور و تلبد الجو بالغيوم فهنالك يقفون متربصين لا يتقدمون و لا يتأخرون و لكن يلزمون شقة الحياد ريثما تنقشع سحابة الشك – فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم ؟ و إن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم و نمنعكم من المؤمنين – و إن منكم لمن ليبطئن , فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً . و لئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم و بينه مودة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً - .
ذلك أبداً دأب المنافقين في كل أمرهم : إن توقعوا ربحاً عاجلاً التمسوه في أي صف وجدوه . و إن توقعوا أذى كذلك تنكروا للفئة التي ينالهم في سبيلها شيء من المكروه و إذا أظلم عليهم الأمر قاموا بعيداً لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء , أما الذي يؤمن بالله و اليوم الآخر فإن له قبلة واحدة يولي وجهه شطرها , هي قبلة الحق لا يخشى فيها لومة لائم .
و قد أشار الشيخ " رحمه الله " في حاشية مطولة إلى مفارقة شرحه للمثلين لما ذهب إليه المفسرون . و بين كيف يستقيم الشرح الذي أثبته مع معهود القرآن في ضرب المثل للهدى و الإيمان بالنور و الضياء و الظلمة و العمى مثلاً للجهل و الكفران . و بين الشيخ كذلك كيف تهيب من القول بما اتفق المفسرون على خلافه حتى ظفر بالحديث الصحيح الصريح و الذي يصف النبي صلى الله عليه و سلم نفسه بمستوقد النار . و ختم بما يمكن اعتباره قاعدة و توجهاً في تدبر القرآن فقال :
و بعد فما بنا – علم الله – حب الخلاف و لا شهوة الإغراب , و لكنها أمانة العلم و النصيحة لكتاب الله تعالى حملتنا على أن نقول فيه أحسن ما نعلم . ثم شجعتنا على أن نسجل بالقلم هذا الذي قلناه بالفم , لنعرضه في الطرس على أنظار القارئين كما عرضناه في الدرس على أسماع الطالبين , لعل هؤلاء واجدون فيه من مواضع النقد و التمحيص ما لم يجده أولئك . و هذا الباب من أبواب البحث و الإستنباط الذي لا يمس أصلاً من أصول الدين و لا يحل حراماً أو يحرم حلالاً لن يزال مفتوحاً لكل مسلم أعطاه الله فهماً في كتابه , على شريطة القصد و الأناة في سير العقل , و مع الإستضاءة في هذا السير بمصباحين من اللغة و الشرع على الحد الذي وصفنا و المنهج الذي رسمنا . و بالله التوفيق .
و الناظر إلى ما قدمه الأستاذ البهي الخولي و الشيخ عبد الله دراز يرى طريقتهما في تناول الأمثال و بيان دلالاتها تـفترق عن ما عرف بالتأويل أو التفسير الإشاري حيث يقفز صاحب التفسير الإشاري فوق ضوابط اللغة و دلالات الألفاظ و يتحدث عن مواجيد و أذواق و مشاعر من باب " الشيء بالشيء يذكر " و التي لا تصلح منهجاً جاداً لبيان معاني القرآن .
و هنا لا بد من طرح سؤال مهم يتعلق بمنهج النظر إلى أمثال القرآن :
هل هناك من مانع من اقـتـفاء أثر الشيخ الخولي و الدكتور دراز في شرح أمثال القرآن و استجلاء دلالاتها الأخلاقية و التربوية ؟
وهل نستطيع القول أن ما قرره المفسرون و علماء البيان بشأن الأمثال هو كلام صحيح إذا تعلق بكلام الناس و أعمالهم الأدبية , أما القرآن الكريم فقد يكون من إعجازه و تفرده أن الأمثال فيه قد أحكمت و فصلت لتكون عناصر الأمثال و جزئيات صورها مقصودة و مناسبة لإستنباط المعاني و استخراج الدلالات ؟
وقد يكون من المفيد أن نذكر أن هذا التوجه في شرح و تناول أمثال القرآن قد مضى على تداوله أكثر من خمسين عاماً دون أن نسمع – على حد علمي – باعتراض على هذه المنهجية في الإستفادة من الجزئيات و التـفاصيل . بل على العكس , فإن كثيراً من العلماء و الدعاة استعملوا هذا المنهج في شرح أمثال القرآن في كثير من المناسبات مستفيدين من معطيات علوم الطبيعة و النبات و الحيوان و غيرها , و جاؤوا في هذا بمعانٍ طيبة التي تلقاها الناس و العلماء بالثناء و القبول .
و قد وجدت من خلال محاولة فهم بعض أمثال القرآن أن مراعاة جزئيات و عناصر المثل تساهم في حل بعض الإشكالات التي تورط فيها بعض المفسرين و أطالوا في الإعتذار عن هجنة ما ذهبوا إليه بما لا يشفي الغليل .
و نجد ذلك التوجه أوضح ما يكون في شرح المثل القرآني : و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً , صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون .
فقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن المثل يمثل حال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه للمشركين و إعراضهم عن دعوته بحال من ينعق ببهائم لا تفهم و لا تعقل . و قد استشكلت وصف كلام النبي الكريم بأنه ينعق فليس في هذه العبارة ما نرضاه من الأدب الواجب في حق النبي صلى الله عليه وسلم . و قد أطال المعتذرون عن إثبات هذا المعنى وهم يشعرون أنه غير لائق بمقام النبوة و لم يزيدوا على تكرار ما ذهبوا إليه من أن المثل هو صورة إجمالية و أن أجزاء الصورة و أفراد مكوناتها غير مقصودة . و لإزالة هذا الإشكال نجد أن ما نقله الطبري عن بعض المفسرين , و ما نقله القرطبي عن ابن زيد و عن قطرب في أن الناعق في المثل هم الكفار يدعون آلهتهم , يستقيم مع ما يجب من الأدب في حق النبي صلى الله عليه و سلم و يستقيم كذلك مع صورة الراعي الذي يصيح بغنمه بما لا يشارك الكلام إلا في اللفظ و الجرس و لكنه نعيق لا معنى له و لا مدلول , فذلك مثل ما يلفقه دعاة الكفر و زعماؤه من الدعوات و الهراء فتستجيب الأغنام لما لا يعقل من الكلام . فالنظر في جزئيات المثل أفاد من المعاني و رفع من الإشكالات ما يحسن اعتباره و لا يستقيم طرحه و استبعاده .
و قريب من هذا الشرح الذي يتضمن إشكالاً يند عن الأدب الواجب شرح أكثر المفسرين للمثل الأول في سورة البقرة : مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً . حيث أثبتوا أن مستوقد النار هو المنافق .
و قد قدم الدكتور عبد الله دراز كلاماً لطيفاً متوجهاً في شرح المثل و جاء بما يزيل الإشكال و يقدم صورة متوازنة .
و في كلا المثلين وجدت أن العناية بتناسق معنى أجزاء المثل و مفردات صورته مع حال من يضرب لهم المثل أعانت على كشف كثير من المعاني و الحكم و العبر التي لم تكن ممكنة مع تجاهل هذا التوجه في دراسة الأمثال . و أعانت كذلك على التخلص من الإشكالات و ما وقع فيه المفسرون من إثبات معانٍ غريبة مستهجنة .
فالمطلوب هو عمل باتجاهين :
1 – تحقيق منهجية شرح الأمثال و وضع ضوابط تنأى بالشرح عن الرمز و الإشارة
2 – النظر في أمثال القرآن و تناولها بالشرح و التفصيل ضمن ما تأصل من منهجية اعتبار الجزئيات و عناصر المثل , بشكل يعتمد ضوابط اللغة و النقل و مرجعية النصوص من القرآن و الحديث .
و لعل هذا التوجه يفتح من أبواب الفهم لكتاب الله و إثبات تفرد أمثال القرآن بخاصية لا تشاركها فيها أمثال الناس و كلام الفصحاء و البلغاء . و في هذا فتح لباب من أبواب الإعجاز القرآني الذي ادخره الله تعالى لمن يبذل فيه الجهد و الدأب و الروية .
No comments:
Post a Comment