Friday, 12 July 2013

القيم بين التقرير و التطبيق


القيم بين التقرير و التطـبـيــق
تختلف الأدوار و المهمات التي يقوم بها العاملون في مجال الفكر و الدعوة, و ما لم يتم التعرف على طبيعة هذا الإختلاف في الأدوار و المهمات فإن الفرصة لسوء الفهم و سوء الظن و التقاطع و التدابر بين فصائل العاملين للإسلام ستزداد يوماً بعد يوم.
فالمعلم و المربي يبين الناس القيم و يدفعهم للوصول إلى القمة و يضرب لهم الأمثلة من حياة السلف الصالح و الرعيل الأول و يرغبهم في الخير و الإقتراب من المثل الأعلى.
و المفتي و المفكر و الخبير الإجتماعي و القائد لا تغيب عنهم القيم التي يبشر بها المعلمون و المربون و لكنهم في محاولتهم لتنزيل هذه القيم على الواقع و اختيار البرامج العملية لاتغيب عنهم صورة المجتمع و التيارات التي تسري فيه و توجه اختيارات الناس و قدرتهم على تحقيق القيم و المثل العليا فيختارون من هذه القيم و المثل مقادير و جرعات تتناسب باجتهادهم مع الواقع و لا تعرض الأمة إلى أزمة و تدفعها خطوة باتجاه القمة بقدر ما تتحمل و بقدر ما تطيق  . و يبقى دور المربي و المعلم مهماً و أصيلاً للتذكير بالقمة حتى لا يحسب الناس أن ما هم عليه في مرحلة من المراحل و في ظرف من الظروف هو نهاية المطاف و غاية الأمل.
 و هنا تأتي الفرصة لسوء الفهم و سوء الظن, فعندما تحسب طائفة من الناس أن إرشاد المعلم و المربي و خطبة الواعظ هي احكام عملية نهائية لا يجوز التنازل عنها إلا تحت أوصاف الفسق و الضلال أو البدعة و الإنحلال, فإذا بالمفتي و المفكر و الخبير الإجتماعي و القائد يحشرون جميعاً في صنف هذه الأوصاف و أشباهها تقع الفتنة و التفرق و الإختلاف.
 و عندما يظن المفتي و المفكر و الخبير و القائد أن ما اختاروه من جرعات تناسب واقعهم الذي يعالجونه يمثل نهاية المطاف و أن أي دعوة إلى المزيد و إلى درجات أعلى من الإلتزام أو الإقتراب من القمة تمثل الغلو و التطرف و التنطع و ما إلى ذلك . تقع الفتنة و التفرق و الإختلاف.
إن الفهم لما يمثله المعلم و المربي و لما يمثله المفتي و المفكر و القائد ضروري لتتكامل الأدوار و تتساند الجهود و تتوحد الصفوف و نبتعد عن سوء الظن و التحامل .
حضرت مرة محاضرة تعرض فيها المحاضر إلى إجراء مقارنة بين الأحاديث النبوية التي تصف فعل النبي صلى الله عليه و سلم من أنه زوج بعض اصحابه على خاتم من حديد أو على ما يحفظ من القرآن , و بين ما اشترطه الفقهاء من شروط الكفاءة في عشيرة الزوج و مهنته و  ماله و المهر المماثل لمهر فتاة من عشيرة الزوجة , و ما إلى ذلك . و توصل المحاضر بعد هذه المقارنة إلى أن ما قرره الإمام أبو حنيفة في موضوع الكفاءة لا علاقة له بهدي النبوة و إرشادات القرآن الكريم التي تبين أساس التفاضل بين الناس بقوله تعالى " إن أكرمكم عند الله أتقاكم ".  و انه لا أساس  و لا صحة لما أطال فيه الفقهاء من شروط تؤصل طبقية لا يعرفها الإسلام .
فكرت فيما أطال فيه المحاضر و ما توصل إليه فعلمت أن ما حمله على التحامل على الأئمة هو الخلط بين دور المربي و المعلم و بين دور المفتي و القائد في الأمة. فتوجيهات القرآن الكريم  و فعل النبي صلى الله عليه و سلم تمثل الهدف السامي الذي تتطلع إليه أجيال الأمة في حركتها لتزكية حياتها لتقترب من المثل الأعلى بقدر استطاعتها , و أما يقرره الأئمة و المفتون فلا تعدو أن تكون شهادة منهم بأن المجتمع و الأعراف التي يعيشها الناس في بيئتهم التي يعرفونها تقيم وزناً لمثل هذا التفاضل في النسب و المهنة و غيرها بحيث لا يمكن أن تتحقق مقاصد عقد الزواج من التواصل و التقارب و التراحم و التمكين لنظام الاسرة و صلة الأرحام و بناء العلاقات الإجتماعية المستقرة في غياب أو تجاهل الضغوط التي يفرضها العرف. فالشروط التي يضعها الفقهاء تمثل رؤية لما يحقق المقاصد في إطار إجتماعي معين وليس تقريراً نهائياً لما يجب أن تكون عليه القيم الحاكمة في الموضوع.
و ليس فهم ما يقوله المفتي على أنه يمثل المثل الأعلى و القيم الحاكمة بأقل ضرراً من اعتبار توجيهات المعلم او المربي على سبيل الترغيب أو الندب على انها تمثل الواجب في كل حال بغض النظر عن الواقع أو العرف.
و قد يكون من أوضح الأمثلة على ما يمكن أن يؤدي إليه الخلط بين دور المربي او المعلم و دور المفتي , تلك القطيعة و سوء الظن بين شرائح من العاملين للإسلام الذين يريدون احياء دور الأمة في مراقبة ممارسة السلطة و تداولها من خلال تربية الأمة على  النصيحة و الشورى  من خلال إقرار المشروعية العليا في الأمة لقيم القرآن و السنة , و بين شريحة من علماء الشريعة الذين يحسبون أن ما قرره بعض الأئمة أو المفتون زمان ضعف الأمة و انهيار مؤسساتها حكماً عاماً يجب أن ينسحب على جميع أجيال المسلمين إلى قيام الساعة و إلا فهي الفتنة و الخروج عن ما قرره أو أقره العلماء !!!
و يستطيع المرء أن يأتي بالكثير من الأمثلة التي تؤكد وجود هذا الخلط في طريقة التعامل مع التراث و فهم كلام الأقدمين و مقتضياته و متعلقاته.
و لعل من المفيد أن نذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يمثل في ذات الوقت المعلم و المربي و المفتي و القائد , فكان صلى الله عليه و سلم يبين للناس و يعلمهم و يزكيهم و يأخذ بأيديهم إلى ما يقربهم من الكمال الإنساني , حتى إذا ما جاءه سائل مستفتياً أو مسترشداً إلى ما يصلحه في خاصة نفسه أشار عليه صلى الله عليه و سلم إلى ما يصلحه بما يناسب حاله مما يمثل خطوة على طريق الكمال الإنساني  و التمثل للإرشادات العامة. فقول النبي صلى الله عليه و سلم لمن جاء يستأذنه في الجهاد : أحي والداك ؟ فقال نعم , فقال صلى الله عليه و سلم : ففيهما فجاهد, يمثل الفتوى التي يجب ان تفهم في سياق حال السائل و ملابسات حياته , و لا تعارض و لا تناقض مع كل ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرره كمعلم و يؤصله كمربي من ضرورة الجهاد و أهميته في حياة الأمة .
و كم يصاب المسلمون بالخيبة و الإحباط عندما يقعون في أزمة أو تطحنهم مشكلة فيلجأون إلى أهل الرأي و النظر و أهل العلم بالشريعة يسألون عن مخرج و حل لما هم فيه فلا يسمعون إلا المواعظ و الخطب .
إن الهروب من دور القائد و الرائد إلى دور الواعظ و المعلم أصبح مرض الذين جفت قرائحهم عن استنباط الجديد و غلب عليهم ورع بارد حملهم على الخوف من مخالفة الأقدمين فانسحبوا إلى مسارب الوعظ و منابر الخطابة التي لا تتصل بالواقع و لا تتحسس المواجع , بدلاً من مواجهة المتغير بما يحقق أهداف الشريعة و يؤصل المقاصد , فإذا بالناس تفتن في دينها و تطلب المخرج بآراء  مشرَق أو مغرَب بعيداً عن شرع الله .
و من طريف ما نقل في كتب الأدب مما له صلة بالخلط بين دور المعلم و القائد ما ذكر عن الحجاج بن يوسف أنه مرَ مع ابيه لمَا كان صغيراً على مجلس يتذاكرون فيه اخبار أبي بكر و عمر - رضي الله عنهما فأشار على أبيه بأن تمنع مثل هذه المجالس لأنها فتنة للناس و حسرة على الأمراء .

و هناك مثال آخر عن علاقة العالم بالشريعة أو الداعية المسلم بعلماء الإجتماع . فالداعية هو أشبه بالمهندس المعماري الذي يصمم بناء من الأبنية و هو ينظر إلى وظيفته و يتأكد من أن العلاقات بين المكونات لا تتعارض مع وظيفة البناء , و يحرص على أن تشير الألوان و الأشكال و المساحات إلى هويته و الصبغة الثقافية و الحضارية لمكان البناء و زمانه و عصره .
أما علماء الإجتماع فهم أشبه بالمهندس الإنشائي الذي ينظر إلى مواد البناء و اللبنات و متانتها و مناسبتها للأشكال و الفراغات ليحكم بإمكانية إكمال البناء كما تخيله المصمم , و ليرشد إلى بعض التعديلات الضرورية التي تفرضها قوانين المتانة و الصلابة لعناصر البناء و مكوناته .
فليس هناك تعارض و تناقض بل الأنسب أن تكون العلاقة بين الداعية و علماء الواقع محكومة بالتكامل و التعاون . و توهم التعارض بينهما هو جهل بطبيعة الأشياء و محاولة للقفز فوق القوانين التي تحكم الإمكان .
فعلماء الإجتماع لهم بصيرة في تقدير الواقع و تحليله و بيان نماذج التغيير المتوقعة في بيئة معينة , و لابد من أخذ تحليلاتهم محمل الجد و مناقشتها بموضوعية و الإستفادة منها في اقتراح الوسائل و المناهج للوصول إلى نتائج أدنى إلى الصواب و أبعد عن المجازفة و الإرتجال .
أما الدعاة الذين يهتمون بالأهداف و الغايات فإن تجاهلهم لمعطيات الواقع كما يوضحها علماؤه و أهل الخبرة فيه يفقدهم المصداقية و يجعل دعوتهم إلى الأهداف مهما كانت سامية و مخلصة صرخة في واد أو نفخة في رماد لا تحمل مقومات استمرارها و دوامها .
فالقدرة على ربط الأمة بأهدافها و هويتها مرهون بالقدرة على فهم الواقع بدقة و اختيار الوسائل المناسبة و رسم الأهداف المرحلية التي تقع في حيز الإمكان .
فالتمييز بين المقاصد و الوسائل هو مفتاح الفهم لدور الداعية في الأخذ عن علماء الواقع ليستطيع أن يختار من الوسائل و الأدوات في التوجيه و التعليم و الإعداد و الحركة ما ينضبط بالرؤية المقاصدية و يضع جهوده على طريق التغيير الممكن و الميسور .
أما إذا تخيل الداعية أن الجهد في فهم الواقع و معرفة مداخل التغيير حسب قوانين الإمكان هو إضاعة للوقت و انحراف عن الجدية في متابعة الأهداف و التركيز عليها , فعندها تصبح الخطابة و التحشيد و الإستقطاب الوسيلة التي تؤمن التفاف الأتباع و لكنها تفقد امكانيات النجاح و التأثير .
و بعد هذه المقدمة الضرورية لبيان اختلاف العاملين في الدور و المهمة يتذكر المرء ما دار من اللغط حول ما كتبه سيد قطب- رحمه الله - في كلامه عن - الإسلام هو الحضارة – و المقارنة بين ذلك الكلام و بين ما قدمه مالك بن نبي - رحمه الله – في كل ما كتبه عن شروط النهضة و دورة الحضارة و مشكلات الأفكار و الثقافة .
لقد كان سيد رحمه الله فيما كتب حريصاً على رسم معالم المنهج بما يحفظ الهوية و يضبط الوجهة , و كان مالك بن نبي رحمه الله يتحدث عن سبل الإمكان بما لا يعارض سنن العمران .
فلكل رجل دوره و لكل عالم مجاله و لا بد من الفهم المتكامل بعيداً عن الحزبية و الإقصاء .






Wednesday, 3 July 2013

التـغـيـيـر . . . محاولة رؤية شاملة


الـتـغيـيـر . . . محاولة رؤية شاملة

التغيير هوالحلم الذي يراود المستضعفين ليتخلصوا من الذل و الهوان الذي يفرضه المستكبرون . و هو الأمل الذي يتطلع إليه الطامحون إلى التطوير و التحسين و التنافس على درجات المجد و التمكين.
و قد درج كثير ممن تناولوا هذا الموضوع على إبراز مسؤولية الإنسان و مركزية جهده في إحداث التغيير , و ذلك إستناداً إلى مدلول الآية الكريمة و صياغتها الشرطية :
" إن الـلـه لا يـغـيـر مـا بـقـوم حـتـى يـغـيـروا مـا بـأنـفـسـهـم "
و قد داب المتحدثون عن التغيير من الإسلاميين على التركيز على الشأن الفكري و الثقافي باعتبار أن التغيير الإنساني المطلوب لما بالنفس يتضمن حصراً الأفكار و الظنون و العقائد و التصورات , كما قرر ذلك بشكل صريح الأستاذ جودت سعيد في كتابه الذي عالج فيه هذا الموضوع .
 و قد بين الأستاذ جودت في مقدمة الطبعة الرابعة من كتابه " حتى يغيروا ما بأنفسهم " أن موضوع التغيير يشتمل على جوانب , أولها هل التغيير ممكن ؟  و إذا كان ممكناً فهل له سنن ؟  و الثاني كيف أغير أو كيف يحدث التغيير ؟  و الجانب الثالث ماذا أغّير ؟
ثمّ أوضح أن الكتاب و المعالجة التي يتناولها تتوجه إلى الجانب الأول , أما الجانب الثاني و الثالث من التغيير فليسا القصد المباشر من الحديث إلا ما جاء في ثنايا الأمثلة على الجانب الأول .
و إذا راجعنا تراث سيد قطب " رحمه الله "  في هذا الموضوع و خاصة في كتابيه " هذا الدين " و " معالم في الطريق " و جدنا أن الطرح لا يختلف كثيراً في جوهره عما قدمه جودت سعيد , فالجهد البشري هو الطريق لتحقيق المنهج القرآني مع الجدية في الأخذ بالقرآن و أولوية التصور الإعتقادي في عملية التغيير في إطار الجهد الجماعي المتميز عن الجاهلية و الجاهليـين .  و فيما عدا هذه التوجهات الإعتقادية فهناك إيحاءات كثيرة بعدم جدوى الحديث أو التفكير في التفاصيل العملية .
و في هذا المقال سأحاول إلقاء بعض الأضواء على هذا الموضوع , و أتناوله من النقطة التي تركه عندها الأستاذ جودت و أمثاله من الرواد . فقد كان اهتمامهم منصباً على بيان امكانية التغيير لإستنقاذ المسلمين من العطالة و النظرة الجبرية القدرية التي تسلب الإنسان الفعالية و الجدية في معالجة عيوبه على المستوى الفردي و الجماعي على حد سواء .
و يبدو  أن الذين عالجوا موضوع التغيير من المفكرين و الكُـتـّاب قد انطلقوا من افتراض ضمني حدد لهم مجال التفكير و النظر و هو أن مدلول حرف الباء و حرف " في " هو واحد في سياق الآية الكريمة , و كأن المعنى هو: حتى يغيروا ما في أنفسهم . و عندها لا غرابة في أن  تأخذ الأفكار و الظنون و العقائد و المفاهيم دوراً مركزياً في الحديث عن التغيير و دور الإنسان فيه.
و عندما يتم اختزال الشأن الفكري و الثقافي في قضية التغيير الإنساني المطلوب إلى ما يسمى العقيدة  و عندما  تختزل العقيدة إلى مجموعة من الصياغات الحرفية و اللفظية في مسائل شكلت خطوط المواجهة بين الفرق و المدارس و المذاهب , و عندما  يغيب في خضم المعارك الكلامية حول الألفاظ و العبارات مدلول العقيدة الذي يزكي القلب و يدفع للعمل و يضبط رعونات النفس , تفقد الدعوة إلى التغيير زخمها و إشعاعها و تفقد الدعوة إلى التغيير و بيان مسؤولية الإنسان فيه معناها و مصداقيتها مهما حاولنا ردم الفجوة التي تفصل المسلم عن الفهم المطلوب لعملية التغيير و كيفية التغيير و مراحله و خطواته و مداه .
و قد استعمل القرآن الكريم الحرف " في " للدلالة على كل ما تضمره القلوب و تكنه الصدور, في مثل قوله تعالى : إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله  . . . قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله . . . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . . . و اعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه .
و لكن القرآن الكريم في آيات التغيير الإنساني المطلوب استعمل التعدية بحرف الباء ,  فهل هناك  فرق بين الحرفين في الدلالة و المعنى , و هل لهذا الفرق من دلالة تنعكس على مجال التغيير و مداه و عناصره و وسائله ؟
قد يكون من المفيد معرفة استعمالات حرف الباء و معانيها في لغة العرب , و التي قد تفتح باباً من الفهم على مجالات و آفاق التغيير المطلوب . فمن معاني حرف الباء الملابسة و الإلصاق , و عند التأمل في ما يعكسه استعمال هذا الحرف بهذا المعنى في هذا المقام نرى أن مجال التغيير لا ينحصر بما في النفس من الأفكار و الظنون و المفاهيم بل يتعداه ليشمل كل ما يلابس النفس و يلتصق بها . و عند ذلك يصبح كل ما يرتبط بالنفس من عادات التفكير و مهارات العمل و الإنجاز و طرق التواصل و التفاهم و آليات الوصول إلى قرار و آليات حل الخلافات و النزاعات و أولويات الإنفاق و عادات الإستهلاك و معايير الشرف و الحظوة و الرفعة , و كل ما يتعلق بتذوق الجمال و مزاج الإستمتاع و الترويح  و عادات النظافة و توجهات الإدارة و النظام . . . . كل ذلك و كثير غيره هو مما يتصل بالنفس و يلابسها و يلتصق بها , و كل ذلك يمثل مجالات للتغيير و المجاهدة و مجالات لتحري الصواب فيها و معرفة مواطن الخلل و انعكاسات الفشل و القصور و التراجع .
إن فهم التغيير بهذا الشكل يقطع الطريق على محاولات الإختزال التي تنشر الوهم بأن آحاد الأفكار أو الآراء أو المفاهيم قادرة على إحداث التغيير بالحجم الذي يرد العافية إلى الأمة التي ضربها الوهن في كل مجال و على كل صعيد .
و لعل مما يرشح هذا المعنى ويزيده و ضوحاً أن معنى النفس في كثير من آيات القرآن الكريم يدل على القلب أو العقل أو الصدر أو ما يمكن أن نعرفة بعنصر الإرادة و الفهم و الإدراك في الذات الإنسانية , وهذا هو المعنى المتبادر للنفس عند استعمال التعدية بالحرف " في " . و هذا هو المعنى للنفس الذي أشار إليه الإمام الغزالي في كتاب عجائب القلب و الذي يشترك مع القلب و العقل للدلالة على اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان .
 أما عتد استعمـال النفس مع حروف أخرى أو بدون تعدية , فللنفس عند ذلك معنى آخر يدل على الذات الجماعية أو الوضع الإجتماعي العام و ما يلابس القوم في شؤون حياتهم و معاشهم . و ليتأمل القارئ قوله تعالى . . رسولاً من أنفسهم . . . ظلموا أنفسهم . . . فلا تزكوا أنفسكم . . . تجاهدون بأموالكم و أنفسكم . . .فالنفس في هذه المواضع لا يمكن حمل معناها ليكون موازياً للقلب أو العقل ,  و على هذا فإن المعنى الذي يترشح من استبعاد حصر معنى النفس في سياق آية التغيير بمعنى العقل أو القلب , أن التغيير المطلوب يتناول الذات الجماعية بكل عناصرها و الوضع الإجتماعي بكل تداخلاته و ما يلابسه .
و يبقى التغيير لما " في " النفس بمعنى عقد العزم و صدق الإرادة و تأكيد النية و خلوص التوجه لإحداث التغيير في كل مجالات ما يتصل بالنفس و المجتمع , و الإحتراز عن العوائق النفسية و الممانعات التي تقاوم التغيير استجابة لضغوط الجهل و الإلف و العادة و استهجان الجديد المخالف . . . يبقى هذا شرطاً لا بد منه لأي تغيير و لكنه لا يتضخم – ليخرج عن كونه شرطاً – ليحل محل التغيير الحقيقي المطلوب في كل مجالات التفكير و العمل و ما يتضمن من المهارات و الخبرات و الوسائل و الطرق و توجهات الإتصال و الإدارة و التنطيم .
و في هذا السياق يصبح كلام الإمام الغزالي في كتاب  " الإحياء " متوجهاً و نافعاً و يلقي الضوء على الطريقة العملية لإحداث التغيير في كل المجالات التي يحسّ الناس بضرورة التحسين و التطوير فيها .
ذكر الإمام الغزالي في كتاب عجائب القلب من " الإحياء " أن اكتساب الأخلاق – و مثلها المهارات و الخبرات – يكون بالرياضة و المجاهدة , و ذلك يعني حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب . فمن أراد مثلاً أن يحصل لنفسه خلق الجود , فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجواد و هو بذل المال , فلا يزال يطالب نفسه و يواظب عليه تكلفاً مجاهداً نفسه فيه حتى يصير ذلك طبعاً له و يتيسر عليه فيصير جواداً , و كذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع و قد غلب عليه الكبر فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة و هو مجاهد نفسه و متكلف إلى أن يصير ذلك خلقاً له و طبعاً فيتيسر عليه , و جميع الأخلاق المحمودة شرعاً تحصل بهذا الطريق . . . . . و قد عرفت بهذا قطعاً أن هذه الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بالرياضة , و هي تكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداءً لتصير طبعاً انتهاءً , و هذا من عجيب العلاقة بين القلب و الجوارح – أعني النفس و البدن – فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة , و كل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه إلى القلب أثر . فمن أراد أن يصير الحذق في الكتابة له صفةً نفسية – حتى يصير كاتباً بالطبع – فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق و يواظب عليه مدة طويلة يحاكي حسن الخط , فيتشبه بالكاتب تكلفاً , ثم لا يزال عليه حتى يصير صفةً راسخةً في نفسه , فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعاً كما كان يصدر منه في الإبتداء تكلفاً . و كذلك من أراد أن يصير فقيه النفس فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء . . . . و كذلك من اراد أن يصير سخياً عفيف النفس حليماً متواضعاً فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفاً حتى يصير له طبعاً , فلا علاج له إلا ذلك .
و ما سماه الإمام الغزالي تكـلّـفاً هو – بلغة العصر – التدريب الواعي المستمر و المحاولة الدائبة لإكتساب المهارات و الخبرات  الفكرية و العملية لتصبح عادةً و طبعاً أصيلاً في كل ناحية يجد الإنسان فيها من نفسه جهلاً أو عجزاً أو قصوراً في كل مجالات الفعل الفردي و الإجتماعي . و يحصل التغيير على المستوى الفردي بشكل مباشر, أما على المستوى الجماعي فلا بد أن يأخذ التغيير المكتسب مداه الإجتـماعي و صيغته الجماعية  حتى يصل المجتمع في أغلب أفراده إلى هيئة نفسية راسخة اكتسبت الخبرات و المهارات الفردية و اكتسبت كذلك التوجه الجماعي الذي يمكنها من أن تتفاعل مع كل ما حولها من منطلق و مقتضيات الخبرات و المهارات , عند ذلك يحدث التغيير في مجال كل خبرة و مهارة تم تحصيلها و إتقانها .
و مجالات التغيير و ما ينبغي إعادة النظر في طريقة أدائه و وسائل رعايته ليس مجالاً للحدس والظن والتخمين , فالوسائل تقيّم بنتائجها , و النتائج هي معيار صحة المقدمات و نجاعة الأسباب .  فكل ما يثير الشكوى و التذمر من عسر أو مشقة أو عدم كفاية أو تخلف عن أداء الوظائف و رعاية المصالح . . . . لا بد من إعادة النظر في مقدماته و لا بد من امتلاك الخبرات و المهارات اللازمة لتشخيص الحال و إعادة الأمور إلى نصابها فيه , و ذلك في إطار منهجية سننية صارمة لا تدع مجالاً للخرافة و التمني و التواكل .
و قد تكون الخبرات و المهارات و طريقة تحصيلها أو التدرب عليها متيسرة موجودة عند استعراض أحوال و ممارسات المجتمعات التي لا تعاني مما يشكو الناس منه و يتذمرون , و عند ذلك لا بد من الإستفادة من تجربتهم و ملاحظة أسباب نجاحهم و ما استخدموه من وسائل لرعاية المصالح و تحقيق الوظائف , و من ثَمّ إعداد العدة لمباشرة الأسباب و إتقان الوسائل و طرق ممارستها و التدرب على مقتضياتها و متطلباتها ضمن السياق الفكري و العملي و الإجتماعي الخاص .
و يجب الحذر من الوهم أن نقل الوسائل من بيئات أخرى و سياق حضاري آخر يمكن أن يحدث التغيير المطلوب إذا أُهمل الجهد المطلوب للتكيف مع البيئة الخاصة .
و عندما يفهم التغيير بهذا الشكل يتوقف التلاوم و إلقاء التبعة و المسؤولية على فئة من الأمة دون أخرى , فالكل مسؤول و الكل مطالب بتحديد مجالات القصور و النقص و فهم عواملها و أسبابها كلٌّ في مهنته و عمله و ما أقامه الله فيه . و هنا لا بد من وجود إطار جماعي و جهد جماعي  يتولى إعداد خطة للتدريب و أهداف للإنجاز و مهارات للإكتساب يساهم الفرد فيها ويشترك في تحقيقها بروح عالية من الشعور بالمسؤولية و جدية في تحمل الأعباء و التبعات .
و على سبيل المثال , فإن الواقع الصحي لمجتمع من المجتمعات يمكن تغييره إلى آفاق راقية عندما ينتشر الإيمان بأن قدر المرض يرد بقدر الدواء و العلاج , و عندما يتولى التعليم نشر ثقافة الوقاية و النظافة و محاربة العادات السيئة , و عندما يتولى النظام العام نشر ثقافة السلامة و الأمان و يفرض تدابير رعايتها و الإلزام بها , و يتولى أصحاب المعرفة الطبية مهمة تحديد أسباب انتشار الأوبئة و الأمراض و اقتراح المعالجات الطبية المناسبة , و يتولى أصحاب الفكر الإداري و النظر التنظيمي تمحيص ما يتوفر من الإمكانيات لإقتراح و تطوير نظام لتأمين الخدمة الطبية لمن يحتاجونها . . . . كلّ ذلك بجهد منظم واعٍ مدروس , يستند إلى معطيات علمية و بشرية و مالية و خطة متدرجة , و بعد ذلك يتلمس الناس التغيير في الواقع الصحي بانخفاض عدد الإصابات و انخفاض عدد الحوادث و القضاء على بعض الأمراض و غير ذلك من النتائج التي لم تكن ممكنة بغير الجهد و المساهمة الواعية لكل فرد من أفراد المجتمع على تفاوت في مقدار المساهمة و أهميتها .
و عند التأمل في هذا المثال عن تغيير الواقع الصحي في مجتمع من المجتمعات , نجد أن تغيير أحوال الأمة في كل ما تشكو منه ينطبق إلى حد كبير على هذا المثال . فأزمة السكن و مشكلة البطالة و انتشار الأمية و مشكلة قذارة الأماكن العامة و كثير غيرها لا يمكن تغييرها إلى الكفاية و النظام و النظافة و السعة و الأمن و الإزدهار بمجرد الوعظ و الترغيب بفوائد الأمن و النظافة و العلم , إذ لا بد من أن ينخرط جميع أبناء الأمة في توجهٍ جادٍ لتغيير عادات الإستهلاك و ترشيد أولويات الإنفاق و امتلاك المعرفة بطرق الإنتاج و وسائل التنفيذ لمعالجة ما يتوفر في البيئة المحلية من موارد و ثروات و إمكانيات , كل ذلك بالتزام صارم بالتخطيط و المتابعة و المحاسبة و كل متطلبات الإدارة الناجحة , و باعتماد التشاور و التناصح و المشاركة لتحديد معالم رؤية للتنمية و التطوير تنطلق من الحاضر و تؤسس لخبرات و مهارات الأداء الفعّـال و تعتمد على عادات التفكير العلمي المنهجي وآليات الوصول إلى قرار يراعي الحد الأدنى من الكفاية و الحد الأعلى من المشاركة للغالبية العظمى من الأمة بعيداً عن الوصاية و الإقصاء .
و عندما تنتشر ثقافة التغيير على هذا النحو تبدأ رحلة الألف ميل بخطوة جادة على مستوى كل فرد مهما كان شأنه و عمله و مهنته , حبّـاً للإتقان و إقبالاً على اكتساب الخبرات و تعلّـم المهارات و شغفاً بالقراءة و التعلم و استباقاً للخير و تنافساً فيما ينفع الناس و التطلع إلى فضل الله بالتغيير و العزّة و التمكين إنطلاقاً من توجيه النبي الكريم " تـؤدون الـذي عـليكم و تسألـون الله الذي لـكم " .
إن هذه التوجهات العملية و الفكرية و الأخلاقية تمثل البداية التي تضمن تراكم الخير و وضوح الطريق لمعرفة مجالات العمل و البناء و التحسين و التطوير .
و يبقى الإهتمام و الغيرة على الصالح العام و الشأن العام و احترام الفضاء الإجتماعي و حقوق الآخرين هو الإطار الذي يكفل العافية لنمو التوجهات العملية الجماعية بعيداً عن الأنانية و العدوان .
إن هذا الفهم لمضمون التغيير و طريقته لا يدع مجالاً لإنتظار ما يحدث بعيداً عن الفرد , فهناك الكثير من المهارات و الخبرات يستطيع الفرد أن يكتسبها ليكون كفئاً لسد كفاية من الكفايات , فأكثر الناس لا يتحسسون مواضع عطالتهم و انعدام فعاليتهم فيغري بهم هذا أن يتصوروا أن أي حديث عن التغيير لا يخصهم بل يجب أن يبدأ التغيير من الآخرين أو الظروف و الأوضاع .
و قد يكون أول ما يجب من العمل في طريق التغيير هو تنمية القدرة على العمل الجماعي و تنسيق الجهود و نشر روح التعاون و توزيع العمل في إطار أمور لا تعوزنا فيها المهارات الفردية أو الخبرات الشخصية و لكننا لا نحسن وضعها في إطار جامع ينظر إلى الوسائل في إطار الأهداف و ينظر إلى التفاصيل ضمن رؤية واضحة للأولويات .

Monday, 1 July 2013

مفهوم النسب و الإصطفاء


مفهوم (النسب) و (الاصطفاء)
 

     لابد للدارس للقرآن والسنة وما كُتب حولهما في التراث من وقفة مبصرة تتناول بالبحث والتأمل المفاهيم والمصطلحات لسبر حقيقة معانيها ، ولعرض ما آلت إليه هذه المفاهيم والمصطلحات في واقع الأمة نسبةً إلى تلك المعاني الأصيلة .
     إن هذه العملية المزدوجة في فهم حقيقة المفاهيم القرآنية ، ثم استعراض مسيرة هذه المفاهيم في واقع الأمة في جيلها الأول وما تلى ذلك من أجيال تُعتبر خطوة ضرورية لفهم القرآن والسنة من جهة ، ولامتلاك المقياس لنقد التراث وضبط عملية الانتقاء والاختيار المنهجي من تفاعل أجيال الأمة مع الأصول ، فلا نهملُ مشاركتهم الناضجة لتنزيل المفاهيم القرآنية على واقعهم ، ولا نحملُ على الشريعة والكتاب المعصوم أفهامهم البشرية والملابسات التاريخية التي عانوا منها .
     وسنحاول في هذه الوقفة القصيرة تحرير مفهوم الاصطفاء والاختيار في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونتابع مسيرتهما في الأمة وما آلت إليه أوضاعهما .
     فالقرآن الكريم يقرر بوضوح أن الله سبحانه اصطفى من البشر أنبياء ورسلاً كانوا موضع تزكية وتكريم وتشريف من الله تعالى فضلا منه ومنحة من كرمه ولطفه ، ليكون هؤلاء الأنبياء منارات هدى ودليل اقتداء للبشرية ، يقيمون بسلوكهم وأعمالهم الحجة على الناس ، ويُبرزون أطرافا من الكمال الإنساني تستلهمه البشرية في سيرها لعمارة الكون وإقامة الحياة الطيبة في الأرض .
     وتكمن المشكلة في ما  آلت إليه معاني الاصطفاء والاختيار عند أتباع الأنبياء والرسل إلى درجةٍ تحتاج إلى وقفة تدبّرٍ وتأمّل . فقد فُهم الاصطفاء والاختيار وما يرتبط به من تكريم وتشريف على أنه ميزاتٌ يدَّعيها الأتباع وضمانات يتيهون بها على الناس . وآل مفهوم النسب وما يرتبط به من معاني التشريف والتفضيل على المستوى الاجتماعي والسياسي والديني إلى مفهوم الاصطفاء العنصري الذي ساد ثقافات الجاهلية منذ وثنيات اليونان والرومان إلى عصبيات وعنصريات القرن العشرين ! ..
     ويعجب المرء حين يُطالع كتب التاريخ والسنة النبوية من كثرة ما يلهج به المؤرخون من ذكر الأنساب والاحتفال بها ، ولا يجد لذلك تفسيرا شافيا منسجما مع التقرير القرآني والهدي النبوي  لحقيقة قيمة الأنساب في ميزان الله تعالى .
     وكثيرا ما يتردد في كتب التاريخ والسنة النبوية مصطلحات من مثل "النسب الشريف" و "الأصلاب الطاهرة" ، وأوصاف التميز والرفعة والمجد والسؤدد لبعض بيوتات العرب وبطونهم وفروع قبائلهم . ويقف المرء على ذكر لفضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأنه كان عالما بالأنساب . وتكاد كتب التاريخ والسيرة تُجمع على البدء بذكر أصول العرب وقبائلهم وشجرة أنسابهم وعلاقة القرابة بينهم ، دون بيانٍ لمعنى هذا ووظيفته في فهم التاريخ أو تفسيره أو علاقة هذا الاحتفال والاهتمام بحقيقة مفهوم النسب في القرآن والسنة .
     فإذا تابع المرء مسيرة مفهوم النسب وانعكاساته على مسيرة تاريخ المسلمين وما أنتجوه من تراث ، كان على يقين من أنه لابد من تحرير هذا المفهوم وضبطه على ضوء كليات القرآن الكريم والسنة النبوية ، ليمكن بعدها الاستفادة من التراث وفهمه على حقيقته والاختيار منه بعد امتلاك أداة الفهم وأداة التنقية من رواسب الجاهلية وتعسف العنصريات المصادمة للفطرة ومنطق العدل الإلهي والحق الذي قامت عليه السماوات والأرض .
     ويأبى منطق الشريعة ومنطق الفطرة والحق والعدل أن يكون معنى مفهوم الاصطفاء والاختيار وجود ميزاتٍ متوارثة وضمانات أزلية تستثني أصنافا من الخلق من تبعات التكليف ومسؤوليات أداء الأمانة . فالقرآن الكريم يقرر أن الإنسان مكلفٌ حاملٌ للأمانة ، مسؤولٌ عما أعطي من إمكانيات ، محاسبٌ على اختياره وعمله ، مستحقٌ للكرامة والتشريف إن أدى الأمانة وعمل بمقتضى التكليف ، ومستحقٌ للعقوبة والنكال إن أهمل التكليف وخان الأمانة . ويكاد يكون من الإطالة الاستدلال بآحاد النصوص والأدلة على مثل تلك الكلية  الدينية المستقرأة من  روح القرآن وروح مقاصده في إصلاح الخلق ، والمبثوثة في مجمل آياته الكريمة .
     وانطلاقا من هذه الكلية الشرعية ، نستلهم معنى الاصطفاء والاختيار الإلهي بشكل لا يتعارض مع معاني القرآن وكلياته . فالأنبياء والرسل والصالحون من عباد الله استحقوا الثناء والتكريم والتشريف بما حملوه من أمانة التكليف وأداء حقوق ما أعطاهم الله من مواهب واستعدادات . فالتشريف لاحقٌ ومبنيٌ على القيام بحقوق التكليف ، ويزيد مقام التشريف كلما صعبت المهمة وتطلبت التضحية والبذل والتجرد لله والخضوع له .
     أما التشريف المنقطع عن معنى القيام بواجبات التكليف فهو المفهوم الجاهلي الذي ابتُليت به الخليقة منذ قال إبليس {أنا خير منه} (الأعراف:12). مع إصراره على العصيان بقوله {لم أكن لأسجد} .
     والمطلع على آيات القرآن الكريم التي ذكرت الأنبياء والرسل بالتنويه وبيان الفضل والمزية , يجد ذلك كله مقرونا بعبارة واضحة عن استجابة الأنبياء للأمر وقيامهم بالواجب وبذلهم وتضحيتهم وإنابتهم وإخلاصهم وكبت دواعي الخلود إلى الدنيا في بشريتهم .
     والسنة النبوية طافحةٌ كذلك بمعنى المسؤولية الفردية ونبذ دعاوى الفضل والشرف القائم على النسب والقبيلة والعشيرة : "يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا" ، "1 من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" ، "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"2 .
     فإذا انضبط معنى الاصطفاء والاختيار بالربط بين التكليف والتشريف ، كان من الواجب إمعان النظر في دلالة اهتمام علماء الأمة من السلف بالأنساب وذكرها والتأكيد عليها . ونبدأ بتقرير ما قدمناه من أن الاهتمام بالأنساب عند سلف الأمة لم يكن لمعنى من معاني الاصطفاء والتمييز العنصري الجاهلي ، وإنما كان له وجه آخر يليق بمكانتهم في فهم القرآن وفهم توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم .
     ولعل من أنسب المداخل لفهم هذه القضية ما عبر عنه العلامة ابن خلدون بمفهوم المَنَعة ، والتي تعني - في الإطار الاجتماعي والسياسي - الحماية والأمن والقدرة على دفع الأذى وتأمين النصرة والعون . فما أرسل الله من نبي إلا في منعةٍ من قومه ، تحقيقا لقدر الله في نشر الدعوة وتبليغ الرسالة .
     وإذا كانت المنعة في البيئة القبلية تتحقق من خلال التناصر بالأنساب وعصبية القرابة ، كان من الطبيعي لمن هيأه الله لموقع القيادة أن يكون مُلِمّاً فاهما واعياً لمتطلبات الحماية والمنعة في البيئة التي يعيش فيها ، مطلعاً على القوانين الناظمة لقيام المنعة وعدم اختلالها وتعرضها للخطر . فلقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم في مكة متمتعاً بحماية بني هاشم وعلى رأسهم عمه أبو طالب ، وكان بنو هاشم يشعرون بواجب حماية واحدٍ منهم ولو خالفهم في الدين ، وخرجوا إلى شعب أبي طالب أعوام الحصار ، لأن المعاناة مهما بلغت أهون عليهم من الوصم بالهوان وتضييع حق واحدٍ منهم يحملهم العرف على نصرته وحمايته .
     وفي ظل الوظيفة الاجتماعية والسياسية لمفهوم النسب في البيئة العربية يصبح حديث الأئمة عن الأنساب مفهوماً متوجهاً ، فلا يستطيع قيادة أمةٍ هذه أعرافها من لا يحسن هذه اللغة ومن لا يعرف مداخل ومستتبعات هذا المفهوم في حياة أفرادها وجماعاتها .
     وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حدثت نقلة نوعية في طبيعة علاقات الحماية والنصرة والمنعة ، وأصبح المؤمنون في المدينة بعضهم أولياء بعض بغضّ النظر عن أنسابهم وقراباتهم ، وانتقلت الوظيفة الاجتماعية لمفهوم النسب إلى مستوىً آخر من التكافل والتناصر وتوزيع الثروة والعون على تقلبات الزمان . فالإرث ، والدية على العاقلة ، والقسامة والولاء .. هي مفاهيم وأحكام تمثل الوظيفة الاجتماعية لمفهوم النسب في إطار المجتمع المسلم في القرون الأولى . وكل تلك التطبيقات والتفريعات على مفهوم النسب هي مسؤوليات وواجباتٌ اجتماعية تستند على قاعدة الغنم بالغرم ، ومبدأ التكافل والتعاون على الخير .
     أما ميزات الفضل والشرف والقداسة المستندة إلى مجرد دعوى النسب، فقد كانت في تاريخ الأمة - ولا تزال - مبرراتِ تسلّطٍ على عقول العوام واستمالة قلوب الرعاع ، استكثارا للأتباع والمؤيدين والمريدين. ولابد من طرح كل ما يتصل بهذا المعنى الجاهلي لمفهوم النسب جملةً وتفصيلا، والرجوع إلى الوظيفة الاجتماعية والسياسية للنسب ، نستلهمهما من خلال القراءة الواعية للسياق الاجتماعي والسياسي الذي استعمل فيهما هذا المصطلح .
     وفي عالم اليوم ، تتنوع طبيعة العلاقات الاجتماعية والسياسية لكل بلد تنوعاً هائلا يصعب على الحصر . ويُعتبر مفهوم النسب والعلاقات القبلية أحد مفاتيح الفهم لحقيقة ما يجري في بعض البلاد ، بينما لا يعني ذلك الأمر شيئا بالنسبة إلى بلاد أخرى .
     ونحن إذا أردنا أن نرتفع إلى مقام الاستفادة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وما ينبغي له من مقام الرسالة الخاتمة الشاملة العامة ، فلا بد من التأسّي بمقاصد فعله وأصحابه وسلف أمته في طلب المنعة والحماية وإمكان الاستمرار في الدعوة والبيان . وكان من الضروري إعادة صياغة مفهوم النسب في كتب التاريخ والسيرة ، وتخليصه من ظلاله الجاهلية وانعكاساته التي عانت منها الأمة طويلا ، ليكون مفهوم النسب دليل أسوةٍ لتشكيل الوعي بمفهوم المنعة ومتطلباتها عند تغير الظروف الاجتماعية والسياسية ، وتغير القاعدة المادية لتأمين المنعة والحماية والتناصر والتكافل في الأمة .



1 رواه البخاري في كتاب الوصايا .
2 رواه الترمذي في كتاب المناقب .