القيم
بين التقرير و التطـبـيــق
تختلف الأدوار و المهمات التي يقوم بها
العاملون في مجال الفكر و الدعوة, و ما لم يتم التعرف على طبيعة هذا الإختلاف في
الأدوار و المهمات فإن الفرصة لسوء الفهم و سوء الظن و التقاطع و التدابر بين
فصائل العاملين للإسلام ستزداد يوماً بعد يوم.
فالمعلم
و المربي يبين الناس القيم و يدفعهم للوصول إلى القمة و يضرب لهم الأمثلة من حياة
السلف الصالح و الرعيل الأول و يرغبهم في الخير و الإقتراب من المثل الأعلى.
و
المفتي و المفكر و الخبير الإجتماعي و القائد لا تغيب عنهم القيم التي يبشر بها
المعلمون و المربون و لكنهم في محاولتهم لتنزيل هذه القيم على الواقع و اختيار
البرامج العملية لاتغيب عنهم صورة المجتمع و التيارات التي تسري فيه و توجه
اختيارات الناس و قدرتهم على تحقيق القيم و المثل العليا فيختارون من هذه القيم و
المثل مقادير و جرعات تتناسب باجتهادهم مع الواقع و لا تعرض الأمة إلى أزمة و
تدفعها خطوة باتجاه القمة بقدر ما تتحمل و بقدر ما تطيق . و يبقى دور المربي و المعلم مهماً و أصيلاً
للتذكير بالقمة حتى لا يحسب الناس أن ما هم عليه في مرحلة من المراحل و في ظرف من
الظروف هو نهاية المطاف و غاية الأمل.
و هنا تأتي الفرصة لسوء الفهم و سوء الظن,
فعندما تحسب طائفة من الناس أن إرشاد المعلم و المربي و خطبة الواعظ هي احكام
عملية نهائية لا يجوز التنازل عنها إلا تحت أوصاف الفسق و الضلال أو البدعة و
الإنحلال, فإذا بالمفتي و المفكر و الخبير الإجتماعي و القائد يحشرون جميعاً في
صنف هذه الأوصاف و أشباهها تقع الفتنة و التفرق و الإختلاف.
و عندما يظن المفتي و المفكر و الخبير و القائد
أن ما اختاروه من جرعات تناسب واقعهم الذي يعالجونه يمثل نهاية المطاف و أن أي
دعوة إلى المزيد و إلى درجات أعلى من الإلتزام أو الإقتراب من القمة تمثل الغلو و
التطرف و التنطع و ما إلى ذلك ….
تقع الفتنة و التفرق و الإختلاف.
إن
الفهم لما يمثله المعلم و المربي و لما يمثله المفتي و المفكر و القائد ضروري
لتتكامل الأدوار و تتساند الجهود و تتوحد الصفوف و نبتعد عن سوء الظن و التحامل .
حضرت
مرة محاضرة تعرض فيها المحاضر إلى إجراء مقارنة بين الأحاديث النبوية التي تصف فعل
النبي صلى الله عليه و سلم من أنه زوج بعض اصحابه على خاتم من حديد أو على ما يحفظ
من القرآن , و بين ما اشترطه الفقهاء من شروط الكفاءة في عشيرة الزوج و مهنته و ماله و المهر المماثل لمهر فتاة من عشيرة
الزوجة , و ما إلى ذلك . و توصل المحاضر بعد هذه المقارنة إلى أن ما قرره الإمام
أبو حنيفة في موضوع الكفاءة لا علاقة له بهدي النبوة و إرشادات القرآن الكريم التي
تبين أساس التفاضل بين الناس بقوله تعالى "
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ". و انه
لا أساس و لا صحة لما أطال فيه الفقهاء من شروط تؤصل
طبقية لا يعرفها الإسلام .
فكرت
فيما أطال فيه المحاضر و ما توصل إليه فعلمت أن ما حمله على التحامل على الأئمة هو
الخلط بين دور المربي و المعلم و بين دور المفتي و القائد في الأمة. فتوجيهات
القرآن الكريم و فعل النبي صلى الله عليه
و سلم تمثل الهدف السامي الذي تتطلع إليه أجيال الأمة في حركتها لتزكية حياتها
لتقترب من المثل الأعلى بقدر استطاعتها , و أما يقرره الأئمة و المفتون فلا تعدو
أن تكون شهادة منهم بأن المجتمع و الأعراف التي يعيشها الناس في بيئتهم التي
يعرفونها تقيم وزناً لمثل هذا التفاضل في النسب و المهنة و غيرها بحيث لا يمكن أن
تتحقق مقاصد عقد الزواج من التواصل و التقارب و التراحم و التمكين لنظام الاسرة و
صلة الأرحام و بناء العلاقات الإجتماعية المستقرة في غياب أو تجاهل الضغوط التي
يفرضها العرف. فالشروط التي يضعها الفقهاء تمثل رؤية لما يحقق المقاصد في إطار
إجتماعي معين وليس تقريراً نهائياً لما يجب أن تكون عليه القيم الحاكمة في
الموضوع.
و ليس
فهم ما يقوله المفتي على أنه يمثل المثل الأعلى و القيم الحاكمة بأقل ضرراً من
اعتبار توجيهات المعلم او المربي على سبيل الترغيب أو الندب على انها تمثل الواجب
في كل حال بغض النظر عن الواقع أو العرف.
و قد
يكون من أوضح الأمثلة على ما يمكن أن يؤدي إليه الخلط بين دور المربي او المعلم و
دور المفتي , تلك القطيعة و سوء الظن بين شرائح من العاملين للإسلام الذين يريدون
احياء دور الأمة في مراقبة ممارسة السلطة و تداولها من خلال تربية الأمة على النصيحة و الشورى من خلال إقرار المشروعية العليا في الأمة لقيم
القرآن و السنة , و بين شريحة من علماء الشريعة الذين يحسبون أن ما قرره بعض
الأئمة أو المفتون زمان ضعف الأمة و انهيار مؤسساتها حكماً عاماً يجب أن ينسحب على
جميع أجيال المسلمين إلى قيام الساعة و إلا فهي الفتنة و الخروج عن ما قرره أو
أقره العلماء !!!
و
يستطيع المرء أن يأتي بالكثير من الأمثلة التي تؤكد وجود هذا الخلط في طريقة
التعامل مع التراث و فهم كلام الأقدمين و مقتضياته و متعلقاته.
و لعل
من المفيد أن نذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يمثل في ذات الوقت المعلم و
المربي و المفتي و القائد , فكان صلى الله عليه و سلم يبين للناس و يعلمهم و
يزكيهم و يأخذ بأيديهم إلى ما يقربهم من الكمال الإنساني , حتى إذا ما جاءه سائل
مستفتياً أو مسترشداً إلى ما يصلحه في خاصة نفسه أشار عليه صلى الله عليه و سلم
إلى ما يصلحه بما يناسب حاله مما يمثل خطوة على طريق الكمال الإنساني و التمثل للإرشادات العامة. فقول النبي صلى
الله عليه و سلم لمن جاء يستأذنه في الجهاد : أحي والداك ؟ فقال نعم , فقال صلى
الله عليه و سلم : ففيهما فجاهد, يمثل الفتوى التي يجب ان تفهم في سياق حال السائل
و ملابسات حياته , و لا تعارض و لا تناقض مع كل ما كان النبي صلى الله عليه و سلم
يقرره كمعلم و يؤصله كمربي من ضرورة الجهاد و أهميته في حياة الأمة .
و كم
يصاب المسلمون بالخيبة و الإحباط عندما يقعون في أزمة أو تطحنهم مشكلة فيلجأون إلى
أهل الرأي و النظر و أهل العلم بالشريعة يسألون عن مخرج و حل لما هم فيه فلا
يسمعون إلا المواعظ و الخطب .
إن
الهروب من دور القائد و الرائد إلى دور الواعظ و المعلم أصبح مرض الذين جفت
قرائحهم عن استنباط الجديد و غلب عليهم ورع بارد حملهم على الخوف من مخالفة
الأقدمين فانسحبوا إلى مسارب الوعظ و منابر الخطابة التي لا تتصل بالواقع و لا
تتحسس المواجع , بدلاً من مواجهة المتغير بما يحقق أهداف الشريعة و يؤصل المقاصد ,
فإذا بالناس تفتن في دينها و تطلب المخرج بآراء
مشرَق أو مغرَب بعيداً عن شرع الله .
و من
طريف ما نقل في كتب الأدب مما له صلة بالخلط بين دور المعلم و القائد ما ذكر عن
الحجاج بن يوسف أنه مرَ مع ابيه لمَا كان صغيراً على مجلس يتذاكرون فيه اخبار أبي
بكر و عمر –
- رضي الله عنهما –
فأشار على أبيه بأن تمنع مثل هذه المجالس لأنها فتنة للناس و حسرة على الأمراء .
و هناك مثال آخر
عن علاقة العالم بالشريعة أو الداعية المسلم بعلماء الإجتماع . فالداعية هو أشبه
بالمهندس المعماري الذي يصمم بناء من الأبنية و هو ينظر إلى وظيفته و يتأكد من أن
العلاقات بين المكونات لا تتعارض مع وظيفة البناء , و يحرص على أن تشير الألوان و
الأشكال و المساحات إلى هويته و الصبغة الثقافية و الحضارية لمكان البناء و زمانه
و عصره .
أما علماء
الإجتماع فهم أشبه بالمهندس الإنشائي الذي ينظر إلى مواد البناء و اللبنات و
متانتها و مناسبتها للأشكال و الفراغات ليحكم بإمكانية إكمال البناء كما تخيله
المصمم , و ليرشد إلى بعض التعديلات الضرورية التي تفرضها قوانين المتانة و
الصلابة لعناصر البناء و مكوناته .
فليس هناك تعارض
و تناقض بل الأنسب أن تكون العلاقة بين الداعية و علماء الواقع محكومة بالتكامل و
التعاون . و توهم التعارض بينهما هو جهل بطبيعة الأشياء و محاولة للقفز فوق
القوانين التي تحكم الإمكان .
فعلماء الإجتماع
لهم بصيرة في تقدير الواقع و تحليله و بيان نماذج التغيير المتوقعة في بيئة معينة
, و لابد من أخذ تحليلاتهم محمل الجد و مناقشتها بموضوعية و الإستفادة منها في
اقتراح الوسائل و المناهج للوصول إلى نتائج أدنى إلى الصواب و أبعد عن المجازفة و
الإرتجال .
أما الدعاة
الذين يهتمون بالأهداف و الغايات فإن تجاهلهم لمعطيات الواقع كما يوضحها علماؤه و
أهل الخبرة فيه يفقدهم المصداقية و يجعل دعوتهم إلى الأهداف مهما كانت سامية و
مخلصة صرخة في واد أو نفخة في رماد لا تحمل مقومات استمرارها و دوامها .
فالقدرة على ربط
الأمة بأهدافها و هويتها مرهون بالقدرة على فهم الواقع بدقة و اختيار الوسائل
المناسبة و رسم الأهداف المرحلية التي تقع في حيز الإمكان .
فالتمييز بين
المقاصد و الوسائل هو مفتاح الفهم لدور الداعية في الأخذ عن علماء الواقع ليستطيع
أن يختار من الوسائل و الأدوات في التوجيه و التعليم و الإعداد و الحركة ما ينضبط
بالرؤية المقاصدية و يضع جهوده على طريق التغيير الممكن و الميسور .
أما إذا تخيل
الداعية أن الجهد في فهم الواقع و معرفة مداخل التغيير حسب قوانين الإمكان هو إضاعة
للوقت و انحراف عن الجدية في متابعة الأهداف و التركيز عليها , فعندها تصبح
الخطابة و التحشيد و الإستقطاب الوسيلة التي تؤمن التفاف الأتباع و لكنها تفقد
امكانيات النجاح و التأثير .
و بعد هذه
المقدمة الضرورية لبيان اختلاف العاملين في الدور و المهمة يتذكر المرء ما دار من
اللغط حول ما كتبه سيد قطب- رحمه الله - في كلامه عن - الإسلام هو الحضارة – و
المقارنة بين ذلك الكلام و بين ما قدمه مالك بن نبي - رحمه الله – في كل ما كتبه
عن شروط النهضة و دورة الحضارة و مشكلات الأفكار و الثقافة .
لقد كان سيد
رحمه الله فيما كتب حريصاً على رسم معالم المنهج بما يحفظ الهوية و يضبط الوجهة ,
و كان مالك بن نبي رحمه الله يتحدث عن سبل الإمكان بما لا يعارض سنن العمران .
فلكل رجل دوره و
لكل عالم مجاله و لا بد من الفهم المتكامل بعيداً عن الحزبية و الإقصاء .