مـقـاصــد الـعــقـائــد
بحث علماء الشريعة عن المعاني التي يمكن أن تكون علةً للأحكام الشرعية و
حاولوا أثناء استخدامهم لمبدأ القياس أن يكون حديثهم منضبطاً فوضعوا شروطاً للعلل
التي تصلح أن تكون سبباً في تعدية الحكم الشرعي تطبيقاً للأمر " فاعتبروا يا
أولي الأبصار ".
فأهل البصر و البصائر يبحثون عن المعاني التي تجتمع في الأمور و الأوضاع
ليحكم العقل بأن مآل هذه الأمور و الأوضاع في النظر الشرعي يجب أن يكون واحداً.
فالإسكار مثلاً هو المعنى الذي يجعل الخمر محرمة, فكلّ ما شارك الخمر في
صفة الإسكار انتقل إليه حكم تحريم الخمر. و تشويش العقل عن امكانية الفهم و
التحليل و النظر عند الغضب هو علة النهي في الحديش الشريف " لا يقضي القاضي بين
اثنين و هو غضبان " فكل وضع يؤول إلى هذا التشويش و فقدان القدرة على التركيز
و التبصر يدخل في هذا النهي.
و قد استعمل العلماء آلية القياس للنظر في الأمور الجديدة التي لم تستوعبها
النصوص و أسعفهم في ذلك منطق التعليل الذي شكل لحمة البيان القرآني و سداه.
و قد ملأ الحديث عن العلة و التعليل و مسالك العلة و ضبطها كتب أصول الفقه
, و طال الجدال عن الترجيح بين الآثار و القياس , و توسع النظر من القياس الجزئي إلى القياس الكلي و ما يؤول إليه
من اعتبار المقاصد , و لكن الملاحَظ أن كل هذا الحديث كان يدور حول الأحكام
العملية من تصرفات و معاملات و عقود و مبادلات . أما الشعائر و العبادات فقد دار
الحديث عن أحكامها بمعزل عن التوسع في استعمال آلية القياس , فالعبادات لا ينظر
فيها إلا إلى معنى الخضوع و الإمتثال , و أحكامها " توقيفية " بمعنى
الوقوف في شأنها عند ما حد الشارع بدون زيادة و لا نقصان . و شاع استعمال وصف
التعبدي في أحكام الشعائر في مقابل الأمور معقولة المعنى التي تشمل أحكام
المعاملات و التصرفات.
و قد تطرق كثير من العلماء إلى الحديث عن أسرار العبادات و معانيها و ما
يجب على العبد أن يستحضره عند الدخول فيها , و شاع ذلك في كتب التربية و الزهد و
الرقائق حيث يمثل كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي نموذجاً
واضحاً للتوجه الذي يبحث في معاني العبادات للنظر فيما يجعلها حية مؤثرة تحقق معنى
التزكية , و ليس من قبيل النظر في المعاني لإكتشاف العلل و تعدية الأحكام و
توسيعها بالقياس.
و عند العودة إلى القرآن الكريم و البحث عن منهجه في التعليل و بيان
الأسباب و الحِكَم و المعاني , نجد أن خطاب القرآن يتعامل مع العقل الإنساني بثقة
و اعتراف و احترام. فمن المؤكد أن الله سبحانه و تعالى يكفي في خطابه لعباده أن
يأمر و ينهى حتى يكون الأمر لازماً في أعناق العباد دون حاجة إلى تعليل وشرح و
بيان لموجبات الأمر و النهي , و لكن رحمة الله سبحانه و بيانه في القرآن كان في كل
أمر و نهي يخاطب الإنسان و يتودد إليه و يستميله للطاعة و الإستجابة ببيان أسباب
الأمر و علل النهي و موجبات التشريع و عاقبة الإمتثال في الدنيا و الآخرة و عقابيل
الإعراض و عقوباته في الدنيا فبل الآخرة , حتى وصل العلماء من استقراء هذا النمط
في القرآن الكريم إلى القول بأن تكليف ما لا يعقل هو من تكليف ما لا يطاق و الذي
تنزهت عنه شريعة الرحمة .
و عند الوصول إلى هذه النقطة و استقرار قاعدة التكليف نجد أن البيان
القرآني طافح باستعمال اسلوب التعليل و بيان الغاية و المقصد في سياق آيات العقائد
و قضايا الإيمان تماماً كعادته في سياق آيات الأحكام العملية . وهنا نتساءل عن
السبب الذي صرف العلماء عن التوسع في شرح
امتداد هذا النمط القرآني في التعليل إلى آيات العقائد و الإيمان و أخبار الغيب.
فمن جملة علم الله الواسع الذي لا يحيط بسعته و شموله أحد , ذلك العلم الذي
وصف الله سبحانه امتداده بقوله " و لو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام و البحر
يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " اختار الله سبحانه و تعالى أن
يُطلع عباده على طرف من علمه في مجال الغيب المكنون في آيات من القرآن الكريم , و
اختارلخطاب عباده بما يجب عليهم الإيمان به و تصديقه اسلوب بيان الحكمة و الغاية و
المقصد و بيان أثر الإيمان بآحاد هذه القضايا و المعلومات و جملتها على سلوك
الإنسان و مزاجه و استقرار قلبه و اتزان عقله و انضباط مشاعره في مجـال و أفق
يتجاوز ما تتعلق به الأحكام العملية من تصرفات.
و من هنا نجد أن هذا الباب في دراسة خطاب القرآن الكريم في عرض قضايا
الإيمان بحاجة إلى من يرتاده و يدرسه و يتأمل في آفاقه و خصائصه و مقتضياته , و هو ما
اخترنا أن نطلق عليه اصطلاحاً " مقاصد العقائد ".
و أول ما يلفت النظر في الخطاب القرآني في أمور الغيبيات و الإيمانيات هو
خطابه العقلي و نمطه التعليلي فالقرآن يخاطب و يتحدى و يستثير عقلاً ناقداً بصيراً
إلى درجة أن القرآن يصم الذين لا يؤمنون بفقد القدرة على استعمال عقلهم أو
الإنتفاع بمصادر العلم و المعرفة عندهم. فالإيمان في القرآن هو صنو الفطرة و ليس
في قضايا الإيمان ما يتعارض مع المعاني الضرورية و البدهيات المركوزة في العقل
الإنساني , و كل ما أحيل فيه العقل إلى التسليم و القبول هو من قبيل الكيفيات التي
يطمح الإنسان إلى معرفتها و لكنه لم يؤهل لفهمها لأنها تنتسب إلى إطارآخر خارج
حدود الزمان و المكان التي تشكل إطاراً لعمل العقل الإنساني و مجال إبداعه و
تفاعله.
فليس في قضايا الإيمان ما يتعارض مع العقل أو يوقعه في الحرج , و لكن فيها
ما يذكر الإنسان بقصوره و ضعفه و ما يمنعه من التنطع في التفكير في كيفيات ليس
عنده مصادر معرفتها أو وسائل اختبار ظنونه بشأنها .
و أول ما تجب ملاحظته في الخطاب القرآني في أمور الإيمانيات و الغيبيات هو
توجهها العملي , فما اختار الله سبحانه أن يخبر عباده بشيء من الغيب إلا لوجود أثرٍ
لذلك العلم على سلوك المؤمن و المصدق به , و هذا الأفق في بيان آثار قضايا و
مفردات الإيمان على السلوك و المشاعر و المزاج يجعل دراسة الإيمانيات بعيدة عن
التجريد و التعقيد الذي صبغ علم الكلام و صياغات كتب العقيدة . فإذا درسنا الخطاب
القرآني بهذه الطريقة نكون بذلك قد حققنا هدف القرآن في ربط الإيمان بالعمل و ربط
قضايا الإيمان بتوجهات المؤمنين و ثقافتهم و نمط حياتهم و علاقاتهم بما يفتح باباً
من الفهم في معرفة قضايا الإيمان .
و مما يتعلق أيضاً بمتعلقات الإيمان العملية و السلوكية دراسة أحوال
الأفراد و الجماعات التي لم تعرف في ثقافتها طرفاً من الإيمانيات و قضايا الإعتقاد
و متابعة نمط حياتهم و الصعوبات التي طبعت مجتمعاتهم و ما كانوا فيه من عنت و مشقة
ترتبط بمقتضيات ما أنكروه من قضايا الإيمان أو ما تورطوا فيه من تصورات بشرية
وثنية قاصرة .
لقد أخبر الله سبحانه عباده بمواطن ضعفهم و قصورهم , فهو الذي خلقهم و هو
أعلم بهم . فالإنسان كما وصفه ربه فيه هشاشة و رعونات :
·
إن الإنسان خلق هلوعاً, إذا مسه الشر جزوعاً, و
إذا مسه الخير منوعا.ً
·
و كان الإنسان قتوراً.
·
و كان الإنسان ضعيفاً.
·
و كان الإنسان أكثر شيء جدلاً.
·
و كان الإنسان كفوراً
·
إن الإنسان لظلوم كفّار.
·
إن الإنسان لربه لكنود.
·
زين للناس حب الشهوات.
و قد أخبر الله سبحانه أن علاج هذه الرعونات و مواطن الضعف لا يكون إلا
بالإيمان بالله و الإلتجاء إلى حماه بحركة واعية بقصور الذات و تعاسة الحال و
المآل , و ما يقدمه الإيمان في الطرف الآخر من ركن شديد تزكو به النفس و تسمو و
تعيش الأمن و العدل و السعة :
·
ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
·
الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم
الأمن و هم مهتدون.
·
ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في
كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير . لكي لا تأسوا على ما فاتكم و لا
تفرحوا بما آتاكم.
·
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب
و الميزان ليقوم الناس بالقسط.
·
و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم.
·
أيحسب الإنسان أن يترك سدى.
·
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً.
·
الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن
عملاً.
فالآيات تربط بوضوح بين مفردات الإيمان و قضايا الغيب بمقاصدها في استقامة
العقل و القلب و الجوارح . و هذه المقاصد لم تترك للظن و التخمين و لكنها جاءت
صريحة واضحة في سياق التعليل و بيان الحكمة و بيان مآلات التصديق و الإذعان و
الخضوع في التزكية و الصلاح و الرشاد . و يزيد هذا المعنى وضوحاً الآيات التي تصف
حال الكافرين و المشركين و المكذبين في الدنيا و ما يعيشونه من تمزق و فساد , و
ذلك بمعزل عما ينتظرهم في الآخرة من الجزاء.
·
و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً.
·
و من يشرك بالله فكأنما يصّـعّـد في السماء أو
تهوي به الريح في مكان سحيق.
·
و من يشرك بالله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما
يصّـعّـد في السماء.
·
والذين كفروا مثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع
إلا دعاءً و نداءً صمٌّ بكمٌّ عميٌ فهم لا يعقلون .
و مما يتعلق بما نحاوله من سبر مقاصد العقائد في القرآن و متعلقات الإيمان
العملية , دراسة الآثار السلوكية و مقتضيات العلم و الإيمان بأسماء الله الحسنى .
و هذا منهج تربوي عملي يجعـل حياة المؤمن في كل لحظة من حياته محاولة للإستجابة
المناسبة لما يطلع عليه و يلاحظه من تجليات الله سبحانه باسم من أسمائه في الكون
أو حالات القلب أو خواطر التفكير . و هذا الأفق من النظر في مقاصد العقائد يجعل
التوحيد لله عز و جل هو محور الفهم و التفسير و مجال التفكير و التدبر و الإتعاظ .
و هذا الأفق من الفهم أيضاً يحاول عقد الصلة بين ما يذكره الله سبحانه من أسمائه و
صفاته في نهاية الآيات من القرآن الكريم و بين موضوع الآيات و مضمون الخطاب من أمر
أو نهي بحيث يكون الفهم لمعاني الأسماء و الإنضباط بآدابها معيناً على الإلتزام
بالأمر و تحقيق مقاصده في تزكية النفس و عمارة الكون .
ما شاء الله ومبروك المدونة
ReplyDeleteأعدك اضافة مداخلة بعد انتهاء من القراءة
very important, provocative, and beautiful message
ReplyDeleteبداية طيبة وعسى أن تعمّ الفائدة...
ReplyDeleteمازن
Very spiritual and enlightening. I really enjoyed it.
ReplyDelete