Wednesday, 8 August 2012

مـقـاصــد الـعــقـائــد


مـقـاصــد الـعــقـائــد

بحث علماء الشريعة عن المعاني التي يمكن أن تكون علةً للأحكام الشرعية و حاولوا أثناء استخدامهم لمبدأ القياس أن يكون حديثهم منضبطاً فوضعوا شروطاً للعلل التي تصلح أن تكون سبباً في تعدية الحكم الشرعي تطبيقاً للأمر " فاعتبروا يا أولي الأبصار ".
فأهل البصر و البصائر يبحثون عن المعاني التي تجتمع في الأمور و الأوضاع ليحكم العقل بأن مآل هذه الأمور و الأوضاع في النظر الشرعي يجب أن يكون واحداً.
فالإسكار مثلاً هو المعنى الذي يجعل الخمر محرمة, فكلّ ما شارك الخمر في صفة الإسكار انتقل إليه حكم تحريم الخمر. و تشويش العقل عن امكانية الفهم و التحليل و النظر عند الغضب هو علة النهي في الحديش الشريف " لا يقضي القاضي بين اثنين و هو غضبان " فكل وضع يؤول إلى هذا التشويش و فقدان القدرة على التركيز و التبصر يدخل في هذا النهي.
و قد استعمل العلماء آلية القياس للنظر في الأمور الجديدة التي لم تستوعبها النصوص و أسعفهم في ذلك منطق التعليل الذي شكل لحمة البيان القرآني و سداه.
و قد ملأ الحديث عن العلة و التعليل و مسالك العلة و ضبطها كتب أصول الفقه , و طال الجدال عن الترجيح بين الآثار و القياس , و توسع النظر من  القياس الجزئي إلى القياس الكلي و ما يؤول إليه من اعتبار المقاصد , و لكن الملاحَظ أن كل هذا الحديث كان يدور حول الأحكام العملية من تصرفات و معاملات و عقود و مبادلات . أما الشعائر و العبادات فقد دار الحديث عن أحكامها بمعزل عن التوسع في استعمال آلية القياس , فالعبادات لا ينظر فيها إلا إلى معنى الخضوع و الإمتثال , و أحكامها " توقيفية " بمعنى الوقوف في شأنها عند ما حد الشارع بدون زيادة و لا نقصان . و شاع استعمال وصف التعبدي في أحكام الشعائر في مقابل الأمور معقولة المعنى التي تشمل أحكام المعاملات و التصرفات.
و قد تطرق كثير من العلماء إلى الحديث عن أسرار العبادات و معانيها و ما يجب على العبد أن يستحضره عند الدخول فيها , و شاع ذلك في كتب التربية و الزهد و الرقائق حيث يمثل كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي نموذجاً واضحاً للتوجه الذي يبحث في معاني العبادات للنظر فيما يجعلها حية مؤثرة تحقق معنى التزكية , و ليس من قبيل النظر في المعاني لإكتشاف العلل و تعدية الأحكام و توسيعها بالقياس.
و عند العودة إلى القرآن الكريم و البحث عن منهجه في التعليل و بيان الأسباب و الحِكَم و المعاني , نجد أن خطاب القرآن يتعامل مع العقل الإنساني بثقة و اعتراف و احترام. فمن المؤكد أن الله سبحانه و تعالى يكفي في خطابه لعباده أن يأمر و ينهى حتى يكون الأمر لازماً في أعناق العباد دون حاجة إلى تعليل وشرح و بيان لموجبات الأمر و النهي , و لكن رحمة الله سبحانه و بيانه في القرآن كان في كل أمر و نهي يخاطب الإنسان و يتودد إليه و يستميله للطاعة و الإستجابة ببيان أسباب الأمر و علل النهي و موجبات التشريع و عاقبة الإمتثال في الدنيا و الآخرة و عقابيل الإعراض و عقوباته في الدنيا فبل الآخرة , حتى وصل العلماء من استقراء هذا النمط في القرآن الكريم إلى القول بأن تكليف ما لا يعقل هو من تكليف ما لا يطاق و الذي تنزهت عنه شريعة الرحمة .
و عند الوصول إلى هذه النقطة و استقرار قاعدة التكليف نجد أن البيان القرآني طافح باستعمال اسلوب التعليل و بيان الغاية و المقصد في سياق آيات العقائد و قضايا الإيمان تماماً كعادته في سياق آيات الأحكام العملية . وهنا نتساءل عن السبب الذي صرف  العلماء عن التوسع في شرح امتداد هذا النمط القرآني في التعليل إلى آيات العقائد و الإيمان و أخبار الغيب.
فمن جملة علم الله الواسع الذي لا يحيط بسعته و شموله أحد , ذلك العلم الذي وصف الله سبحانه امتداده بقوله " و لو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " اختار الله سبحانه و تعالى أن يُطلع عباده على طرف من علمه في مجال الغيب المكنون في آيات من القرآن الكريم , و اختارلخطاب عباده بما يجب عليهم الإيمان به و تصديقه اسلوب بيان الحكمة و الغاية و المقصد و بيان أثر الإيمان بآحاد هذه القضايا و المعلومات و جملتها على سلوك الإنسان و مزاجه و استقرار قلبه و اتزان عقله و انضباط مشاعره في مجـال و أفق يتجاوز ما تتعلق به الأحكام العملية من تصرفات.
و من هنا نجد أن هذا الباب في دراسة خطاب القرآن الكريم في عرض قضايا الإيمان بحاجة إلى من يرتاده و يدرسه و  يتأمل في آفاقه و خصائصه و مقتضياته , و هو ما اخترنا أن نطلق عليه اصطلاحاً " مقاصد العقائد ".
و أول ما يلفت النظر في الخطاب القرآني في أمور الغيبيات و الإيمانيات هو خطابه العقلي و نمطه التعليلي فالقرآن يخاطب و يتحدى و يستثير عقلاً ناقداً بصيراً إلى درجة أن القرآن يصم الذين لا يؤمنون بفقد القدرة على استعمال عقلهم أو الإنتفاع بمصادر العلم و المعرفة عندهم. فالإيمان في القرآن هو صنو الفطرة و ليس في قضايا الإيمان ما يتعارض مع المعاني الضرورية و البدهيات المركوزة في العقل الإنساني , و كل ما أحيل فيه العقل إلى التسليم و القبول هو من قبيل الكيفيات التي يطمح الإنسان إلى معرفتها و لكنه لم يؤهل لفهمها لأنها تنتسب إلى إطارآخر خارج حدود الزمان و المكان التي تشكل إطاراً لعمل العقل الإنساني و مجال إبداعه و تفاعله.
فليس في قضايا الإيمان ما يتعارض مع العقل أو يوقعه في الحرج , و لكن فيها ما يذكر الإنسان بقصوره و ضعفه و ما يمنعه من التنطع في التفكير في كيفيات ليس عنده مصادر معرفتها أو وسائل اختبار ظنونه بشأنها .   
و أول ما تجب ملاحظته في الخطاب القرآني في أمور الإيمانيات و الغيبيات هو توجهها العملي , فما اختار الله سبحانه أن يخبر عباده بشيء من الغيب إلا لوجود أثرٍ لذلك العلم على سلوك المؤمن و المصدق به , و هذا الأفق في بيان آثار قضايا و مفردات الإيمان على السلوك و المشاعر و المزاج يجعل دراسة الإيمانيات بعيدة عن التجريد و التعقيد الذي صبغ علم الكلام و صياغات كتب العقيدة . فإذا درسنا الخطاب القرآني بهذه الطريقة نكون بذلك قد حققنا هدف القرآن في ربط الإيمان بالعمل و ربط قضايا الإيمان بتوجهات المؤمنين و ثقافتهم و نمط حياتهم و علاقاتهم بما يفتح باباً من الفهم في معرفة قضايا الإيمان .
و مما يتعلق أيضاً بمتعلقات الإيمان العملية و السلوكية دراسة أحوال الأفراد و الجماعات التي لم تعرف في ثقافتها طرفاً من الإيمانيات و قضايا الإعتقاد و متابعة نمط حياتهم و الصعوبات التي طبعت مجتمعاتهم و ما كانوا فيه من عنت و مشقة ترتبط بمقتضيات ما أنكروه من قضايا الإيمان أو ما تورطوا فيه من تصورات بشرية وثنية قاصرة .
لقد أخبر الله سبحانه عباده بمواطن ضعفهم و قصورهم , فهو الذي خلقهم و هو أعلم بهم . فالإنسان كما وصفه ربه فيه هشاشة و رعونات :
·       إن الإنسان خلق هلوعاً, إذا مسه الشر جزوعاً, و إذا مسه الخير منوعا.ً
·       و كان الإنسان قتوراً.
·       و كان الإنسان ضعيفاً.
·       و كان الإنسان أكثر شيء جدلاً.
·       و كان الإنسان كفوراً
·       إن الإنسان لظلوم كفّار.
·       إن الإنسان لربه لكنود.
·       زين للناس حب الشهوات.
و قد أخبر الله سبحانه أن علاج هذه الرعونات و مواطن الضعف لا يكون إلا بالإيمان بالله و الإلتجاء إلى حماه بحركة واعية بقصور الذات و تعاسة الحال و المآل , و ما يقدمه الإيمان في الطرف الآخر من ركن شديد تزكو به النفس و تسمو و تعيش الأمن و العدل و السعة :
·       ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
·       الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون.
·    ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير . لكي لا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم.
·       لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط.
·       و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم.
·       أيحسب الإنسان أن يترك سدى.
·       أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً.
·       الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.
فالآيات تربط بوضوح بين مفردات الإيمان و قضايا الغيب بمقاصدها في استقامة العقل و القلب و الجوارح . و هذه المقاصد لم تترك للظن و التخمين و لكنها جاءت صريحة واضحة في سياق التعليل و بيان الحكمة و بيان مآلات التصديق و الإذعان و الخضوع في التزكية و الصلاح و الرشاد . و يزيد هذا المعنى وضوحاً الآيات التي تصف حال الكافرين و المشركين و المكذبين في الدنيا و ما يعيشونه من تمزق و فساد , و ذلك بمعزل عما ينتظرهم في الآخرة من الجزاء.
·       و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً.
·       و من يشرك بالله فكأنما يصّـعّـد في السماء أو تهوي به الريح في مكان سحيق.
·       و من يشرك بالله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّـعّـد في السماء.
·       والذين كفروا مثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً و نداءً صمٌّ بكمٌّ عميٌ فهم لا يعقلون .

و مما يتعلق بما نحاوله من سبر مقاصد العقائد في القرآن و متعلقات الإيمان العملية , دراسة الآثار السلوكية و مقتضيات العلم و الإيمان بأسماء الله الحسنى . و هذا منهج تربوي عملي يجعـل حياة المؤمن في كل لحظة من حياته محاولة للإستجابة المناسبة لما يطلع عليه و يلاحظه من تجليات الله سبحانه باسم من أسمائه في الكون أو حالات القلب أو خواطر التفكير . و هذا الأفق من النظر في مقاصد العقائد يجعل التوحيد لله عز و جل هو محور الفهم و التفسير و مجال التفكير و التدبر و الإتعاظ . و هذا الأفق من الفهم أيضاً يحاول عقد الصلة بين ما يذكره الله سبحانه من أسمائه و صفاته في نهاية الآيات من القرآن الكريم و بين موضوع الآيات و مضمون الخطاب من أمر أو نهي بحيث يكون الفهم لمعاني الأسماء و الإنضباط بآدابها معيناً على الإلتزام بالأمر و تحقيق مقاصده في تزكية النفس و عمارة الكون .


4 comments:

  1. ما شاء الله ومبروك المدونة
    أعدك اضافة مداخلة بعد انتهاء من القراءة

    ReplyDelete
  2. very important, provocative, and beautiful message

    ReplyDelete
  3. بداية طيبة وعسى أن تعمّ الفائدة...
    مازن

    ReplyDelete
  4. Very spiritual and enlightening. I really enjoyed it.

    ReplyDelete