اهدنا الصراط
المستقيم
يأتي
هذا الدعاء في فاتحة الكتاب ليرشد قارئ القرآن أن ما سيجده في هذا الكتاب هو
الصراط المستقيم و أن عليه أن يكون في قراءته طالب هداية مستشعراً لوحشة الضياع إن
ابتعد عن الدليل .
و
يردد المؤمن هذا الدعاء في صلاته سبعة عشر مرة – على الأقل – في اليوم و الليلة في
الصلاة المكتوبة , فما نصيبه من فهم معنى هذا الدعاء ؟ و ما نصيبه من فهم ما يترتب
عليه بعد توجهه بهذا الدعاء ؟
و يكاد
المرء لا يجد لمعنى هذا الدعاء أثراً عند كثير من المصلين . و كأن الأمر هو تحصيل
حاصل , فالصراط المستقيم هو الإسلام و نحن مسلمون مهتدون و الحمد لله . و لا يزيد
الأمر عن ترديد باللسان ليس له في العقل و القلب أثر .
و
الهداية في القرآن لها معنيان متكاملان , و ليس معنىً واحداً , فالقرآن الكريم
يخاطب النبي صلى الله عليه و سلم و يقول : " و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم
" , و يخاطبه مرة أخرى و يقول : " إنك لا تهدي من أحببت " . و القرآن الكريم " يهدي للتي هي اقوم
" " هدىً للمتقين " " هدىً و رحمة للمحسنين "
" قل هو للذين آمنوا هدىً و شفاء و الذين
لا يؤمنون في آذانهم وقر و هو عليهم عمى "
فلا
بد من استجلاء معنى كل من الهدايتين , و لا بد من بيان ما يترتب على كل معنى من
المعنيين في عنق كل من توجه إلى الله تعالى داعياً " اهدنا الصراط المستقيم
" .
و
المعنى الأول للهداية هو
البيان و الدلالة على الحق و الخير و الإرشاد إلى مواطن الصلاح و مظان الهلاك و
الفساد. و بهذا المعنى القرآن يهدي و الرسول يهدي و المعلم يهدي و كل داع إلى الله
يهدي .
"
و أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " أي بيّـنّـا لهم و دللناهم و
أرشدناهم .
و
أول ما يجب على طالب الهداية و هو يدعو الله تعالى " اهدنا الصراط المستقيم
" أن يطلب العلم و الفهم . فليس من الجدية في طلب الهداية أن يعلم المرء أن
القرآن يهدي ثم لا يطلب فهمه و لا يسعى إلى تدبر أغراضه و مقاصده . و ليس من
الجدية في طلب الهداية أن يعلم المرء أن الرسول يهدي ثم يعرض عن فهم سنته و طريقة
و نموذج حياته و سمته و مزاجه و خلقه صلى الله عليه و سلم .
و
المعنى الثاني للهداية هو التوفيق
للإلتزام بمقتضى العلم , و العهد على اتباع ما دل عليه الفهم , و امتلاك الإرادة و
الجرأة و الشجاعة و الصبر على متطلبات الإلتزام .
و
هذه الهداية يمنحها الله سبحانه و تعالى لمن امتلك الإرادة و العزم و بذل جهده
لإتباع ما علمه من الحق و الصواب . " و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
" " و الذين اهتدوا زادهم هدىً و آتاهم تقواهم " .
فكثير
ممن يخطئون لا ينقصهم العلم بضرر و فساد ما يعملون و لكن ينقصهم العزم و الإرادة و
الصبر على الإلتزام بما علموه و تيقنوه . فالذي يتورط بالتدخين – مثلاً – لا يحتاج
في الغالب إلى معرفة ضرر ما يتورط فيه و لكن تعوزه الإرادة و صدق العزم لتجنب ما
يضره و يؤذيه . و يصدق هذا على كل ما يتورط فيه الناس من عادات سيئة أو أخلاق
ذميمة و ممارسات قبيحة .
و
يكون المؤمن على الصراط المستقيم عندما يتطابق عمله مع مقتضيات العلم الصحيح
بتوجيهات القرآن الكريم و هدي النبي صلى الله عليه و سلم , و المعرفة الدقيقة
بواقعه و ما يؤول إليه فعله , و ذلك في كل موقف أو اختيار . و الإسلام هو الصراط
المستقيم حين لا ينفصل الإسم عن معناه من الخضوع و الإنقياد لله تعالى . فالصراط
المستقيم ليس إسماً أو شارة أو علامة يحملها المرء , و الصراط المستقيم ليس
انتماءً لهوية جماعية بعيداً عن مجاهدات معرفة الحق و الصواب و مجاهدات عقبات
الهوى و الألفة و الإعتياد .
فدعاء
المؤمن في صلاته أن يهديه الله إلى الصراط المستقيم يتضمن العهد و الوعد بتحري
العلم من مصادره و مظانه في كتاب الله و سنة نبيه و مشورة أهل العلم بالواقع , و
يتضمن كذلك العهد و الوعد بتطبيق مقتضى العلم و بذل الجهد للإلتزام , و يتضمن
الإلتجاء إلى الله تعالى أن يعين بالتوفيق و الثبات و شرح الصدر و تقوية العزم و
التيسير و تذليل العقبات .
فمن
استحضر هذه المعاني في دعائه و بذل جهده في القيام بدوره و حظه في الهداية , كان
حرياً أن يكرمه الله سبحانه و يكون ممن أنعم الله عليهم . و من توجه إلى العمل و
هو مخالف لما يعلم أنه الحق و الصواب كان حرياً أن يكون ممن استحق الغضب من الله .
و من توجه إلى العمل و هو معرِض عن تحري وجه الصواب في ما يقوم به من عمل كان
حرياً أن ينطبق عليه وصف الضلال . فالصراط المستقيم حالة عقلية و نفسية تجمع بين
الحرص على المعرفة و الإلتزام بها في كل شأن و في كل قرار يتخذه المؤمن و هو يواجه
مواقف الحياة . فما أشد غفلة من يظن أن خطاب الله سبحانه لبيان أصناف الناس في
علاقتهم بالصراط المستقيم لا تخصه و لا تعنيه , فيتورط في الغفلة عن طلب العلم و
معرفة الصواب أو يميل مع الهوى و ما اعتاد و ألِف و يظن أن انتماءه للإسلام يمنحه
العصمة من أن يكون من المغضوب عليهم أو من الضالين .
اللهم احعنا من المهتدين الصالحين على سراطك المستقيم
ReplyDelete