الإسـتـغــفـــــار
هناك
فكرة شائعة عن مفهوم الإستغفار و هي ارتباطه - حصراً - بالذنوب و المعاصي . فكل
ابن آدم خطّـاء , و الملائكة وحدهم هم المبرمجون لعمل الصواب دائماً " لا
يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون " , أما الإنسان المؤمن و إن كان قلبه
لا ينطوي إلا خير و لا ينوي إلا الخير و لكن عمله يأتي مشوباً بالجهل و الضعف و
القصور .. فالكمال لله وحده . و قد أشار الإمام الغزالي رحمه الله أن هذا المعنى
هو المقصود في قول النبي صلى الله عليه و سلم " نية المرء خير من عمله "
. فالذنوب و المخالفات جزء من طبيعة الإنسان و جبلته و في الحديث : لو لم تذنبوا
لذهب الله بكم و جاء بقوم يذنبون و يستغفرون الله فيغفر لهم .
فالإستغفار هو طلب المغفرة و هو طلب ستر الذنوب
للنجاة من الفضيحة و الخزي و ذهاب الجاه و المروءة بين الناس في الدنيا و الآخرة .
و هذا المعنى سائغ معروف صاغه ابن عطاء الله السكندري رحمه الله في حكمته التي
يقول فيها " من مـدحك إنـما مـدح ستر الله فيك , فالشكر لـمن ستـرك
و ليس الشكر لمن مـدحـك و شكرك " .
و لكن
اقتصار مفهوم الإستغفار على الذنوب و المعاصي و الآثام يحرم المؤمن من آفاق واسعة و
ذرى شامخة من الكمال الإنساني يرتادها المؤمن من خلال معرفته لمعانٍ أخرى من
الإستغفار , و هو ما سنحاول توضيحه في هذا المقال .
جاءني
مرة شاب كان يدرس في مدرسة ثانوية نصرانية و أخبرني أن المعلم سأله : هل ثبت عند
المسلمين أن محمداً قد استغفر ربه ؟ قال الشاب نعم . قال المعلم : هذا يعني أن
محمداً قد اقترف ذنباً أو خطيئة يطلب المغفرة من أجلها . أما عيسى فلم يذنب قط .
حملني
هذا السؤال على مراجعة معنى الإستغفار و أجبت الشاب بما أذهب عنه الشبهة و الحمد
لله . و وجدت أن الشبهة جاءت من حصر معنى الإستغفار بمعنىً واحد و هو ما قد يقدح
في معنى العصمة للنبي صلى الله عليه و سلم الذي كان يستغفر ربه في اليوم أكثر من
سبعين مرة . و لو انحصر معنى الإستغفار بستر المعاصي و الذنوب لما كان في استغفاره
صلى الله عليه و سلم كبير فائدة فهو تحصيل حاصل لوجود العصمة مما يستلزم الإستغفار
.
في طبيعة
الإنسان ضعف و عجز و قصور و هو محدود في فهمه و محدود في امكانياته . و عندما يدرك
الإنسان ذلك من طبيعته و فطرته فإن هذا يحمله على التواضع و يذهب عنه الكبر و الغرور
.
و أظهر ما يتجلى فيه عجز الإنسان و ضعفه و قصوره
هو عالم الغيب و محاولة التفكر في صفات الله و استجلاء كمالاته سبحانه و تعالى . و
نبينا محمد صلى الله عليه و سلم هو أكمل البشر و أعرف الناس بكمالات الله عز وجل و
أعرف البشر بضعف الإنسان و عجزه كذلك . فكان كلما تفكر في صفات الله عز وجل و طالع
بقلبه كمالاً من كمالات الله عز و جل , أدرك أنه – لبشريته – لا يستطيع أن يوفي
مولاه ما يستحق من مدح و ثناء , فيستغفر
معترفاً بعجزه البشري و يقول : سبحانك , لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على
نفسك . و يقول : يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك , و ذلك
لعلمه أن ما ينبغي لله عز وجل لا يستطيعه الإنسان مهما بلغ من فصاحة و بلاغة و
قدرة على البيان . فاستغفار النبي صلى الله عليه و سلم – بهذا المعنى – هو دليل
كمال إنساني و دليل عظمة نبوية . و الإستغفار بهذا المعنى يجعل السبعين مرة أو
المائة مرة من الإستغفار في اليوم مفهوماً متوجهاً فهي تعبر عن عدد المرات في
اليوم التي تأمل النبي صلى الله عليه و سلم و تفكر في صفة من صفات الله عز و جل
فأدرك أفقاً جديداً من كمالات ربه و استشعر عجزه عن الثناء عليه بما يليق و ينبغي
, فاستغفر .
فالإستغفار
هو اعتراف بالعجز و الضعف و القصور و طلب من الله تعالى أن يستر ذلك و يغطيه بلطفه
و رحمته . و الإستغفار – بهذا المعنى – هو الذي يقطع وسواس العجب و ادعاء الكمال فيما
يقوم به العبد من أعمال و طاعات. و مما يدل على هذا المعنى ما سنّه النبي صلى الله
عليه وسلم من الإستغفار بعد الصلاة , و في هذا الموضع يلزم أن يكون معنى الإستغفار
– بعد العبادة – هو الإعتراف أن البشر لا يملكون الثناء على الله تعالى بما هو
أهله و بما يستحق لعجزهم و قصورهم و لـما قد يخالط العبادة من سهو و غفلة و شرود .
و
الإستغفار الذي ورد الندب إليه في ختام المجلس – و لو كان مجلس عبادة و طلب علم – بقول المؤمن " سبحانك اللهم و بحمدك نستغفرك و نتوب
إليك " . هو تبرؤ من الكمال و طلب للستر من العجب و الخطأ
و الإستغفار الذي ينهي به المتحدث أو الخطيب
خطبته بقوله " أقول قولي هذا و أستغفر الله " , هو طلب من الله تعالى
لستر ما كان في الحديث من خطأ و زلل أو ما قد يشوبه من إعجاب بالنفس و إدلال
بالعلم و الفصاحة و القدرة على البيان .
و
الإستغفار الذي ورد عند التثاؤب و التجشؤ هو طلب من الله تعالى لستر ضعف و هشاشة
بنيته الإنسان و اعتراف بذلك .
و
الإستغفار الذي نُـدب إليه عند الخروج من الخلاء و قول المؤمن " غفرانك ,
اللهم إني أعوذ بك من الخبث و الخبائث " هو طلب من الله سبحانه أن يستر
الجانب القبيح من طبيعتنا و خلقتنا . و لولا ستر الله تعالى هذا الجانب القبيح من
طبيعتنا و خلقتنا بلطفه و رحمته , لما استطاع البشر أن يستمتعوا باجتماعهم و
تواصلهم و حديثهم .
فأصل الإستغفار و ما يبعث عليه في قلب المؤمن ,
هو إدراك العجز لما يجب لمقام الألوهية من الحمد و الثناء , و إدراك بُعدِه عن
الكمال , و إدراك ما يخالط خلقته و بشريته من جهل و ضعف و قصور يتجلى أحياناً
بالمخالفات و الذنوب و المعاصي . و كذلك إدراك ما يخالط طبيعته من هشاشة الصلصال و
رعونة و نتن الحمأ المسنون قبل أن أن يتشرف بنفخة الروح و الإيمان .
فالإستغفار
مقامات و يدرك المؤمن منها بقدر تواضعه و معرفته بحقيقة بشريته , و بقدر مجاهدته
للتبرء من إدعاء الكمال و الفضل و الحول و القوة , و بقدر لجوئه إلى الله عز و جل
ليتداركه برحمته و عنايته و ستره . فهذه آفاق من معاني الإستغفار تعيد الحياة إلى
هذه العبادة المهمة و تجعل المؤمن أكثر مقدرة على ملاحظة أحوال قلبه و خواطر فكره
عند الإستغفار .
و أكمل
البشر في مقامات الإستغفار هو نبينا محمد صلى الله عليه و سلم , لكمال معرفته بربه
و معرفته ببشريته , فما جاء في الآيات التي تأمر النبي الكريم أن يستغفر من ذنوبه
أو الايات التي تخبر أن الله تعالى قد غفر ذنوبه يجب أن تفهم بما يليق بمقام
النبوة و لا يقدح في معنى العصمة . فذنوب النبي صلى الله عليه وسلم – ليست ذنوباً
على الحقيقة – بل هي عمله لخلاف الأولى باحتهاد , وقد سميت ذنوباً من باب المشاكلة
اللفظية لما يستغفر منه المؤمنون , تأكيداً لبشريته صلى الله عليه و سلم و تعليماً
لأمته التواضع و البراءة من ادعاء الكمال .
No comments:
Post a Comment