Tuesday, 21 January 2014

أريد فتوى



أريـــــد فـتــــوى

لقيني صاحبي ، وبعد السلام وشيء من الكلام قال : أريد فتوى بشأن المعاملات المالية التي تجري عبر شاشة الكمبيوتر في أسواق المضاربات ، هل هي حرام أم حلاال؟
قلت : لست خبيرا في هذا الباب من التعامل حتى تطلب مني هذا  لأتنطع للجواب على هذه المسألة بغير علم .
قال: نعم أعرف أن الفتوى كلمة كبيرة تتحرج منها ، ولكن قل لي كيف تشعر تجاه هذا الأمر؟
قلت : أشعر أن السؤال مغلوط وطرح الأمر بهذا الشكل هو مشكلة بحد ذاته ، والسؤال المغلوط ليس له جواب .
قال : لم أفهم فماذا تعني أن السؤال خطأ ، أليس من واجب المسلم أن يسأل عن أي أمر أحرام أم حلال قبل أن يقدم عليه ؟
قلت : هذا صحيح ولكنه في نفس الوقت هو شرك يقع فيه الناس عند تبسيط الأمور بشكل مخل . فكثيرا ما يطرح الناس سؤالا يبدو بسيطا بريئا ولكنه في الوقت نفسه يضع إطارا مغلوطا لتناول الموضوع ، أو يتجاهل الإطار الصحيح الذي ينبغي أن توضع فيه التفاصيل فيكون الجواب مهما كان اتجاهه سلبا أم إيجابا محض تمويه .
قال : هات بعض الأمثلة .
قلت : أعود إلى سؤالك عن المضاربات المالية عبر شبكات الإتصال فلو أن صورة المسألة أن رجلا اشترى سهما من أسهم شركة بمبلغ من المال ثم باعه بعد فترة فربح شيئا ما ، هل هذا حلال أم حرام ؟ فهذه الصورة البريئة تقترح أن كل ما تغير عند استعمال شبكات الاتصال عبر الكمبيوتر هو شكل إجراء البيع والشراء وتفاصيل التوثيق ليس إلا .
ولكن هذه الصورة البريئة البسيطة تخفي وراءها كارثة ، ولعل الأدهى أن كثيرا ممن يخوض في هذا الشرك فيمضي في الكلام على عماية .
ولعلها مسؤولية السائل قبل كل شيء أن يعلم أن للمال وظيفة اجتماعية فهو مال الأمة في رعاية مالكه ، فلا جناح أن يجني المالك الربح من أي تعامل يقوم على العدل ولكن الأهم أن مصالح الأمة هي المعيار الأول للقضية كلها . والآية الكريمة تقرر وظيفة المال :
   " اموالكم التي جعل الله لكم قياما "
فهناك مصالح لابد من تحقيقها ليقوم المجتمع ، وإذا غاب المال لم تتحقق المصالح ولم تقم للأمة قائمة ولم تسد كفاية من تأمين المرافق وفرص العمل لينتفع الكل بالكل .
ففي غياب هذه النظرة المقاصدية لوظيفة المال فأي جواب عن تفاصيل التعامل لايغني شيئا عن الكارثة التي تحل بالأمة إذا جلس كل صاحب ثروة مهما كانت كبيرة أوصغيرة خلف شاشة الكمبيوتر وقرر أن يصب بما عنده من موارد في هذه الشركة أو تلك  والنتيجة أن الأمة لاتملك مالا يقوم بحاجاتها بل هي تساهم في دوران وتغذية نظام عمل آخر لا علاقة له بالأمة ووظيفة المال فيها .
وقد يكون من عقابيل هذا التوجيه أن الأمة تحرم المال وتحرم تراكم الخبرة الفنية اللازمة لإدارته واستثماره وتكرر تجارب خيبة الأمل والفشل ويلجأ الناس إلى الحل السهل بالاستثمار في أسواق ليس من برنامجها ولا ما تفكر فيه تأمين فرص العمل الشريف لأبناء الأمة وتنمية خبراتها في القيام بمصالحها ، فأسألك بالله هل هناك جواب سهل مباشر لمثل هذا الموقف . فهذا بالذات ما أعنيه بأن السؤال المغلوط لا جواب له . وإذا كنت لا أعلم تفاصيل الاجراءات الفنية لا تنطع بالقول حرام أو حلال . ولكني أعلم أن هذا الإطار الكلي المقاصدي الجامع المتمثل في تحرير وظيفة المال في الأمة . هو الأساس ويمثل البداية الصحيحة لتناول الموضوع ابتداءا من السائل الذي ائتمنه الله على مصالح الأمة وانتهاء بالمفتي الذي يتناول تفاصيل القضايا الإجرائية للتأكد من انطباقها على مقياس العدل .
ولازلت أذكر سؤالا كان يتردد بشكل بريء عن تحويل الأموال من بلد إلى بلد هل هو حرام أم حلال؟ فالصياغة البريئة تتساءل عن رجل جمع نقوده وسافر إلى بلد آخر فهل عليه من شيء يلام لأجله ؟
وتمضي الأيام لنعلم أن هذا السؤال البريء يعبر عن ممارسة أدت إلى كارثة اقتصادية حرمت الأمة من أموالها وفقدت الغطاء النقدي للعملات الأجنبية لقضاء المصالح وتدهورت قيمة العملة وزاد التضخم وأصبح الفقير ذو العيال لايستطيع أن يشتري بما كان بالأمس القريب يكفيه ليعيش بالكفاف لشهر ما يستطيع أن يسد حاجته لأسبوع فهل نستطيع أن نتجاهل معاناة الفقراء واتساع أعدادهم والضنك الذي يعيشون فيه . وهل ينكر عاقل أن ممارسة أصحاب الأموال كانت من جملة ما عجل بالكارثة وضيع كفايات الأمة ومواردها وصبها في إطار آخر لا علاقة له بمصالح الأمة من قريب أو بعيد .
إن إختزال- اسلامية- أي تصرف إلى فتوى مختصرة -  حرام أو حلال - هو مرض يجب أن نعد العدة لمواجهته بما يليق من الدأب والصبر والبحث والدراسة وقبل كل شيء بامتلاك البصيرة العملية التي تتحسس مواقع التصرفات في نسيج الأمة ومآلات الأفعال في كيانها حتى نحسن السؤال فنشارك في بناء التوجه المقاصدي العملي لتلمس مواضع الصواب في العمل . والله المستعان .

Monday, 20 January 2014

كيف نستجيب للقرح



كيف نستجيب للقرح

يعيش المسلمون زمن فتنة و عصر استضعاف . و لا يكاد يمضي يوم لا تتناقل فيه وسائل الإعلام ما يؤذي المسلمين في مشاعرهم و مقدساتهم و كرامتهم . و يزيد الأمر سوءاً كثرة من يلهجون بذكر أخبار الأذى و إشاعة ما يبث الوهن و الإستخذاء .
فأحاديث الناس في ندواتهم و مجالسهم تضخم أثر الأذى و تنشر جواً خانقاً لا يسمع فيه المرء إلا اجترار مقالات السوء . و يتساءل المرء كيف يواجه هذا الوضع المتأزم و كيف يخرج بالناس من هذه الدوامة القاتلة للوقت و المدمرة للجهد و الأمل .
و يجد المؤمن في القرآن الكريم ما يعطيه على الدوام القدرة على الإرتفاع فوق لحظة القرح و الأذى و رؤية الأمور في صورة كونية شاملة تعطيه البصيرة لرؤية ما وراء السطور و ما وراء الأحداث .
لقد واجه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعد هزيمة أُحـُد موجة من مقالات السوء و الأذى و جاء القرآن الكريم ليضع هذا الموقف التاريخي الخاص في إطار سنة كونية و درس يبني الأمة و يوجهها حتى تستطيع أن تستفيد من أخطائها و تستدرك ضعفها و تـُري من نفسها أنها تستحق النصر و التمكين الذي وعده الله عباده المؤمنين .
لقد بدأ القرآن الكريم بيان دروس و عبر أحداث معركة أُحـُد بتقرير حقيقة لها دلالاتها و أهميتها : لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً , ودُّوا ما عَنِتـّم . و وضع القرآن بعد ذلك منهاج النظر في تصاريف الأمور : قـُل هـو من عـنـد أنـفـسكـم .
إن البداية الصحيحة لمعالجة الأزمات لا تبدأ بالتمني و المطالبة أن يغير الطرف الآخر موقفه و نمط سلوكه . فقد قرر القرآن الكريم طبيعة الطرف الآخر بما يقطع الأمل من هذا  التمني و يضع الأمور في موضعها . فالآخر مهما بلغ حرصنا على إنصافه و احترام مقدساته . . . . . " تحـبونهم و لا يحبونكم و تؤمنون بالكتاب كـلّه "  متورط و حريص على كل ما يضع المؤمنين في المشقة و العسر و الحرج و لا يترك فرصة لدفعهم إلى الحيرة و الإضطراب و الخبال . فكيف يسوغ أن تتجاهل الأمة هذه الحقيقة و تعكس تصورها عن البداية الممكنة لمعالجة أي أزمة ؟
و يأتي التقرير القرآني " قل هو من عند أنفسكم " ليدفع بالمؤمنين إلى التفكر و التدبر فيما عسى أن يكونوا قد أهملوه أو غفلوا عنه من سنن التدافع أو واجبات البلاغ المبين , ليكون القرح و الأذى عامل تمحيص و أداة استدراك .
و أول ما يجب على المؤمنين أن يتذكروه هو موقعهم من الكون و خصوصية دورهم الموكل إليهم في بيان الهدي الرباني الذي تزكو به الحياة و يتأصل الخير . فقيمة المؤمن في نفسه تنطلق من معرفته قيمة الحق الذي كُـلِّف ببيانه و تمثيله و إبرازه و ليس من مقدار القوة و مدى التمكين الذي يتمتع به . فالقوة و التمكين يتداولها الناس بقدر رباني تحكمه سنن التدافع و التداول . و من الخطأ أن يربط المؤمن بين التمكين و بين امتلاك الحق و المشروعية , فهذا هو شأن من ابتُـلي بامتلاك القوة فظن من نفسه استحقاق التشريف و غفل عن مسؤولية التكليف فطغى و تجاوز الحد . و القرآن يذكر المؤمنين أن يستشعروا العزة و الإستعلاء بالإيمان و قيم الإيمان و ليس بما يمتلكون من قوة و نفوذ " و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ".
فالشعور بالنقص و الدونية هو ما يحاول أصحاب القوة أن يقنعوا به المستضعفين و يروّضوهم على قبوله و الخضوع له و هذا هو الأمر الجلل الذي يتطلب العزم و المصابرة : " لتبلونّ في أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذىً كثيراً و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " .
لقد بيّـن القرآن الكريم – بأشد الصيغ اللغوية للتأكيد و المبالغة – أن الإبتلاء و الإمتحان أمر لا بد منه و أن الأذى للمؤمنين هو شأن و ديدن من تجمعهم عداوة الإسلام و المسلمين لا ينفكون عنه و لا يملونه و أن الواجب في هذا الحال هو الصبر الذي يعني في هذا المقام الثبات على الحق و عدم الشعور بالدونية و الإستخذاء , و أن الواجب كذلك التحلي بالتقوى التي تعني في هذا السياق أن يتذكر المؤمنون أخلاقهم و قيمهم و أن ينتبهوا و هم يردون على الأذى أن لا يتورطوا بسفاهات الآخرين و تعصبهم و تضييعهم للحرمات و المقدسات .
و الصبر في القرآن الكريم – عندما نتأمل السياق الذي ورد فيه الأمر بالصبر أو الثناء على الصابرين – هو في أكثره أمر بالثبات على الحق و التمسك بمقتضيات الإيمان و أخلاق الإيمان في مواجهة الإستكبار و التكذيب و الإستهزاء و الأذى و الظلم , و خاصة عندما يكون المؤمن في حال ضعف لا تمكنه من الإنتصار للحق و دفع الأذى عن نفسه . و مع ذلك فالمؤمن مطالب بأن يحمل نفسه على الإرتفاع فوق الأذى و التفكير فيما وراء لحظة القرح و الألم , و ينظر بمنظار كوني شامل ليرى أن العلو و الفساد لا يمكن أن يستمر و أن العاقبة و الدوام تكون لما ينفع الناس و ما يؤصل قيم التكافل و التعايش و التعارف في الأرض , و ليكون الإحتمال و مكابدة الأذى بعزة و تَرَفـُّع هو ضريبة استحقاق التمكين و قرينة اقتراب النصر الذي وعده الله تعالى للصابرين " ألا إن نصر الله قريب ".

و هنا لا بد من التنبيه إلى قضية مهمة كثيراً ما يدفع إلى الغفلة عنها جو التدافع و الخصام . إن من الحق الذي يطالَـب المؤمن أن يتمسك به هو أن القرآن الكريم رسالة عالمية و خطاب للناس كافة و هو " هدى للناس " و " بيان للناس " و " رحمة للعالمين " . و إن الذهول عن هذا الأصل لأي سبب يـُفقِد المؤمنين المصداقية و يشوه الرسالة التي يحملونها عندما يضمر مداها إلى انتصارٍ للنفس و تشفٍ من الظالمين و ارتهان لآلام الماضي و مظالمه , أو عندما تختزل الرسالة العالمية إلى هوية إقليمية محلية و ثقافة وطنية و تقاليد قومية . و عندها تغيب القدرة على طرح قيم القرآن و توجهات القرآن بديلاً حضارياً عالمياً متقدماً عن العصبيات و العنصريات التي أشقت البشرية .
و المؤمنون في هذه الحال معنيون باستنقاذ من ظلموهم و اعتدوا عليهم تماماً كما هم معنيون باستنقاذ المستضعفين . و يكون المؤمنون معنيين بطرح كلمة سواء لا أثر فيها لضغوط ثارات الجاهلية و الوقوف عند الماضي و مظالمه , بل تتوجه إلى المستقبل لتأصيل التعارف و التعايش و رفع الفتنة و الفساد .
إن هذا التوجه إلى المستقبل بأمل و تفاؤل لبنائه على قيم العدل و الإعراض عن الإرتهان لآلام الماضي و معاناة الظلم و الإستضعاف هو الذي عبر عنه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله عندما قال لمن عاندوه و قاتلوه : اذهبوا فأنتم الطلقاء . و هو المعنى الذي مثّله صلاح الدين و هو يعفو عن الصليبيين المجرمين . و هو المعنى الذي قد يفهم من وعد النبي " ما ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزاً " هذا الصبر الذي يوجه النفس بعيداً عن التشفي و الإنتصاف و يدفعها إلى الترفع لتأصيل أخلاق التعامل التي تبني المستقبل المشترك و تحفظ كرامة الإنسان و تعترف بالتنوع و الإختلاف . إن هذا المعنى من الصبر و حبس النفس على مقتضياته هو الذي يتطلب العزيمة و المجاهدة التي لا يحتملها أهل الإستعجال و الرعونة و قصر النظر و بذلك الصبر يكتسب المؤمنون المصداقية التي تؤهلهم للريادة و استحقاق التمكين لرفع الأذى عن المستضعفين .

Friday, 17 January 2014

الإستغفار



الإسـتـغــفـــــار
هناك فكرة شائعة عن مفهوم الإستغفار و هي ارتباطه - حصراً - بالذنوب و المعاصي . فكل ابن آدم خطّـاء , و الملائكة وحدهم هم المبرمجون لعمل الصواب دائماً " لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون " , أما الإنسان المؤمن و إن كان قلبه لا ينطوي إلا خير و لا ينوي إلا الخير و لكن عمله يأتي مشوباً بالجهل و الضعف و القصور .. فالكمال لله وحده . و قد أشار الإمام الغزالي رحمه الله أن هذا المعنى هو المقصود في قول النبي صلى الله عليه و سلم " نية المرء خير من عمله " . فالذنوب و المخالفات جزء من طبيعة الإنسان و جبلته و في الحديث : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم و جاء بقوم يذنبون و يستغفرون الله فيغفر لهم .
 فالإستغفار هو طلب المغفرة و هو طلب ستر الذنوب للنجاة من الفضيحة و الخزي و ذهاب الجاه و المروءة بين الناس في الدنيا و الآخرة . و هذا المعنى سائغ معروف صاغه ابن عطاء الله السكندري رحمه الله في حكمته التي يقول فيها           " من مـدحك إنـما مـدح ستر الله فيك , فالشكر لـمن ستـرك و ليس الشكر لمن مـدحـك و شكرك " .
و لكن اقتصار مفهوم الإستغفار على الذنوب و المعاصي و الآثام يحرم المؤمن من آفاق واسعة و ذرى شامخة من الكمال الإنساني يرتادها المؤمن من خلال معرفته لمعانٍ أخرى من الإستغفار , و هو ما سنحاول توضيحه في هذا المقال .
جاءني مرة شاب كان يدرس في مدرسة ثانوية نصرانية و أخبرني أن المعلم سأله : هل ثبت عند المسلمين أن محمداً قد استغفر ربه ؟ قال الشاب نعم . قال المعلم : هذا يعني أن محمداً قد اقترف ذنباً أو خطيئة يطلب المغفرة من أجلها . أما عيسى فلم يذنب قط .
حملني هذا السؤال على مراجعة معنى الإستغفار و أجبت الشاب بما أذهب عنه الشبهة و الحمد لله . و وجدت أن الشبهة جاءت من حصر معنى الإستغفار بمعنىً واحد و هو ما قد يقدح في معنى العصمة للنبي صلى الله عليه و سلم الذي كان يستغفر ربه في اليوم أكثر من سبعين مرة . و لو انحصر معنى الإستغفار بستر المعاصي و الذنوب لما كان في استغفاره صلى الله عليه و سلم كبير فائدة فهو تحصيل حاصل لوجود العصمة مما يستلزم الإستغفار .
في طبيعة الإنسان ضعف و عجز و قصور و هو محدود في فهمه و محدود في امكانياته . و عندما يدرك الإنسان ذلك من طبيعته و فطرته فإن هذا يحمله على التواضع و يذهب عنه الكبر و الغرور .  و أظهر ما يتجلى فيه عجز الإنسان و ضعفه و قصوره هو عالم الغيب و محاولة التفكر في صفات الله و استجلاء كمالاته سبحانه و تعالى . و نبينا محمد صلى الله عليه و سلم هو أكمل البشر و أعرف الناس بكمالات الله عز وجل و أعرف البشر بضعف الإنسان و عجزه كذلك . فكان كلما تفكر في صفات الله عز وجل و طالع بقلبه كمالاً من كمالات الله عز و جل , أدرك أنه – لبشريته – لا يستطيع أن يوفي مولاه ما يستحق من مدح و ثناء ,  فيستغفر معترفاً بعجزه البشري و يقول : سبحانك , لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك . و يقول : يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك , و ذلك لعلمه أن ما ينبغي لله عز وجل لا يستطيعه الإنسان مهما بلغ من فصاحة و بلاغة و قدرة على البيان . فاستغفار النبي صلى الله عليه و سلم – بهذا المعنى – هو دليل كمال إنساني و دليل عظمة نبوية . و الإستغفار بهذا المعنى يجعل السبعين مرة أو المائة مرة من الإستغفار في اليوم مفهوماً متوجهاً فهي تعبر عن عدد المرات في اليوم التي تأمل النبي صلى الله عليه و سلم و تفكر في صفة من صفات الله عز و جل فأدرك أفقاً جديداً من كمالات ربه و استشعر عجزه عن الثناء عليه بما يليق و ينبغي ,  فاستغفر .
فالإستغفار هو اعتراف بالعجز و الضعف و القصور و طلب من الله تعالى أن يستر ذلك و يغطيه بلطفه و رحمته . و الإستغفار – بهذا المعنى – هو الذي يقطع وسواس العجب و ادعاء الكمال فيما يقوم به العبد من أعمال و طاعات. و مما يدل على هذا المعنى ما سنّه النبي صلى الله عليه وسلم من الإستغفار بعد الصلاة , و في هذا الموضع يلزم أن يكون معنى الإستغفار – بعد العبادة – هو الإعتراف أن البشر لا يملكون الثناء على الله تعالى بما هو أهله و بما يستحق لعجزهم و قصورهم و لـما قد يخالط العبادة من سهو و غفلة و شرود .
و الإستغفار الذي ورد الندب إليه في ختام المجلس – و لو كان مجلس عبادة و طلب علم –  بقول المؤمن  " سبحانك اللهم و بحمدك نستغفرك و نتوب إليك " . هو تبرؤ من الكمال و طلب للستر من العجب و الخطأ
 و الإستغفار الذي ينهي به المتحدث أو الخطيب خطبته بقوله " أقول قولي هذا و أستغفر الله " , هو طلب من الله تعالى لستر ما كان في الحديث من خطأ و زلل أو ما قد يشوبه من إعجاب بالنفس و إدلال بالعلم و الفصاحة و القدرة على البيان .
و الإستغفار الذي ورد عند التثاؤب و التجشؤ هو طلب من الله تعالى لستر ضعف و هشاشة بنيته الإنسان و اعتراف بذلك .
و الإستغفار الذي نُـدب إليه عند الخروج من الخلاء و قول المؤمن " غفرانك , اللهم إني أعوذ بك من الخبث و الخبائث " هو طلب من الله سبحانه أن يستر الجانب القبيح من طبيعتنا و خلقتنا . و لولا ستر الله تعالى هذا الجانب القبيح من طبيعتنا و خلقتنا بلطفه و رحمته , لما استطاع البشر أن يستمتعوا باجتماعهم و تواصلهم و حديثهم .
 فأصل الإستغفار و ما يبعث عليه في قلب المؤمن , هو إدراك العجز لما يجب لمقام الألوهية من الحمد و الثناء , و إدراك بُعدِه عن الكمال , و إدراك ما يخالط خلقته و بشريته من جهل و ضعف و قصور يتجلى أحياناً بالمخالفات و الذنوب و المعاصي . و كذلك إدراك ما يخالط طبيعته من هشاشة الصلصال و رعونة و نتن الحمأ المسنون قبل أن أن يتشرف بنفخة الروح و الإيمان .
فالإستغفار مقامات و يدرك المؤمن منها بقدر تواضعه و معرفته بحقيقة بشريته , و بقدر مجاهدته للتبرء من إدعاء الكمال و الفضل و الحول و القوة , و بقدر لجوئه إلى الله عز و جل ليتداركه برحمته و عنايته و ستره . فهذه آفاق من معاني الإستغفار تعيد الحياة إلى هذه العبادة المهمة و تجعل المؤمن أكثر مقدرة على ملاحظة أحوال قلبه و خواطر فكره عند الإستغفار .
و أكمل البشر في مقامات الإستغفار هو نبينا محمد صلى الله عليه و سلم , لكمال معرفته بربه و معرفته ببشريته , فما جاء في الآيات التي تأمر النبي الكريم أن يستغفر من ذنوبه أو الايات التي تخبر أن الله تعالى قد غفر ذنوبه يجب أن تفهم بما يليق بمقام النبوة و لا يقدح في معنى العصمة . فذنوب النبي صلى الله عليه وسلم – ليست ذنوباً على الحقيقة – بل هي عمله لخلاف الأولى باحتهاد , وقد سميت ذنوباً من باب المشاكلة اللفظية لما يستغفر منه المؤمنون , تأكيداً لبشريته صلى الله عليه و سلم و تعليماً لأمته التواضع و البراءة من ادعاء الكمال .