Sunday, 1 February 2015

من عند أنفسكم


من عند أنفسكم
في الجو المشحون بالألغاز و الغموض و الأكاذيب و المناورات و الذي يحيط بما يسمى " داعش "، يحس المسلم اليوم أن حملة التشويه للإسلام و المسلمين قد بلغت مع المعتوهين من أنصار هذه المجموعة غايتها. و تمضي هذه الحملة بتنسيق من جميع الأطراف في النظام الدولي لتدفع المؤمنين إلى متاهات الفتنة عن دين الله و الحيرة و الضياع.
و في هذه الظروف الحالكة يحسن بالمسلم الواعي أن يتذكر كلمات من الحكمة أطلقها " عباس محمود العقاد " في ختام كتابه     " الإسلام في القرن العشرين " : ( مهما تكن السياسة فالعقيدة أقوى منها، و مهما تكن الدولة فالأمة هي الباقية )
فالتركيز على العقيدة و خصائصها و مقتضياتها في النفس و الحياة، و الإنتماء إلى الأمة و هويتها و مهمتها الكونية، هو الذي يجعل من الفتن فرصاً لمراجعة الثغرات في تراثنا الفقهي و القانوني و تقرير ما يجب تقريره بشأنها بعيداً عن الورع البارد الذي يصور المراجعة الواجبة تطاولاً و جرأة على التراث و السلف، في الوقت الذي يتقن أعداء الأمة كشف هذه الثغرات و استغلالها و توظيفها.
تتعالى الأصوات باستنكار ما يفعله السفهاء من غلمان " داعش " من إعادة العمل بالإسترقاق و الإستعباد و اتخاذ الإماء، بعد أن طوى التاريخ هذه الصفحة الكئيبة من تاريخ البشرية.
لقد عالج كثير من علماء المسلمين المعاصرين موضوع الرق و وضعوه في إطاره التاريخي العالمي. و قرروا أن الإسلام شرع العتق و لم يشرع الرق. و أن الرق الذي أقره الإسلام هو من قبيل المعاملة بالمثل في نظام عالمي لا يمكن إلغاؤه من طرف واحد. و أن الرق في القرآن الكريم يجب أن يفهم على أنه مثال عن التدرج في تقرير الأحكام، حيث نتلو آيات من القرآن و نعلم أنها لا تمثل الحكم النهائي في موضوعها. وذلك مثل آيات تحريم الخمر و الآيات المتعلقة بالميراث و الولاء و الحدود و غيرها. وقد قرر الإمام ابن عاشور ذلك في كتابه " مقاصد الشريعة الإسلامية " فقال : و من قواعد الفقه قول الفقهاء " الشارع متشوف للحرية " فذلك استقراؤه من تصرفات الشريعة التي دلت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبودية و تعميم الحرية.
و أسهب كثير من العلماء من الشرق و الغرب في بيان الفرق الشاسع بين الرق الذي أقره الإسلام – إلى حين – و بين الرق في مجتمعات غير المسلمين الذي يجرد من الإنسانية. لقد كان الرق في مجتمعات المسلمين عامل اندماج و احتواء و تطبيع للوافدين الجدد إلى مجتمعات المسلمين في ظروف الحرب. و سن الإسلام من التشريعات و الضوابط القانونية بما يعطي الرقيق فرصة كبيرة للتحرر بالمكاتبة و الكفارات و استحقاق مال الزكاة. و حفظ الإسلام حياة الرقيق بقوانين المماثلة في القصاص، و حفظ كرامتهم و انسانيتهم بالتوصيات النبوية بتـشجيع الرفق بهم و مساواتهم في المطعم و الملبس.
أما الرق في مجتمعات غير المسلمين فقد كان رمزاً للوحشية و التجريد من الإنسانية. و كانت قوانين الرق في مجتمعات غير المسلمين تؤصل طبقية صارمة  تجعل الخروج من ربقة العبودية من المحال. حتى أن العالم المسلم    " توماس كليري " يقرر أن المعاملة التي كان الأرقاء يتلقونها  و الحقوق التي يتمتعون بها في مجتمعات المسلمين، مثل تعلم القراءة و الكتابة و حق افـتداء النفس بالمكاتبة، و غير ذلك، كانت تعتبر من الجرائم التي كانت تعاقب عليها قوانين الرق في أمريكا بأشد العقوبات.
إن مما يلفت النظر حقاً أن كل المساهمات الجادة لكثير من علماء المسلمين في توجيه هذا الموضوع ليفهم ضمن كلياته و أصوله الشرعية و خلفياته التاريخية، ظلت غائبة عن المنظومة الفقهية التي تدرّس كتبها في المعاهد الشرعية إلى يومنا هذا. و ما زال الطلاب و الدارسون يمرون على تفاصيل أحكام العبيد و الإماء دون أي ذكر لما جرى في الدنيا من إلغاء لهذا النظام أو عقد لمعاهدات دولية في هذا الشأن حتى و لو كان من جملة من أقرها و أمضاها السلطان العثماني. 
فهل نستغرب بعد هذا أن نسمع بين الحين و الآخر أن بقايا من ممارسات الرق ما زال موجوداً في زوايا و أطراف من العالم الإسلامي ؟
 و هل نستغرب أن نجد من يدافع عن نظام الرق و استمراره بين المسلمين.
 و هل نستغرب أن يرتكب السفهاء من غلمان داعش و أمثالهم جرائم ضد الإنسانية و هم مطمئنون أن المنظومة الفقهية تقر و  تدعم و تبرر – في نظرهم – ما يفعلون ؟
إن المراجعة المطلوبة لتراثنا و المنظومة الفقهية يجب أن تضع أمثال هذه الموضوعات الخطيرة في إطارها الصحيح. و يجب أن تكون البداية في هذه المراجعة تقرير الكليات و المقاصد الشرعية، و الخروج من الإرتهان للتارخ و الممارسات التاريخية لمجتمعات المسلمين و خاصة تلك التي لا تجد ما يبررها و يسندها في الأصول و التوجه العملي الواقعي في فهم التراث. فإذا تم انجاز هذه المراجعة كان على المشتغلين باعداد المناهج أو بالتعليم الشرعي و أن يجعلوا من نتائج المراجعات دليلاً و مدخلاً للدراسة يضع الأمور في نصابها حتى يفهم ما قرره العلماء في ما دونوه ضمن سياقه التاريخي و ظروف كتابته و ينزع عنه هالة القداسة و المرجعية المطلقة التي لا تجوز لغير القرآن.