Tuesday, 16 June 2015

قواعــد الفهم عن القرآن


قواعد الفهم عن القرآن


        ·القرآن الكريم كتاب هداية ليستقيم العقل و القلب و الجوارح على سنن الرشاد  . و كل ما في القرآن من بلاغة و إعجاز و نظم  و أخبار و قصص و بشارة و إنذار هي مؤيدات و مساعدات , و ليست بذاتها غاية مقطوعة عن معنى الهداية و الإستقامة.
        · بركة القرآن و هدايته مكفولة لمن قرأه بفهم و تدبر. و القراءة المقطوعة عن الفهم و التدبر علامة هجر للقرآن و إخراج له عن دوره و وظيفته. و قد ذكر الفقهاء في آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم. و قال الغزالي في الإحياء : التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية و التفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تنكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تنكشف إلا للموفقين. و قال : من موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيراً و اعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس و مجاهد و أن ما وراء ذلك تفسير بالرأي، فهذا من الحجب العظيمة.
        · نزل القرآن الكريم بلغة العرب لحكمة يعلمها الله سبحانه " الله أعلم حيث يجعل رسالته ". و ما يزال العلماء يحاولون كشف أسرار هذا الإختيار الرباني و الربط بين خصائص اللغة و ميزاتها و بين خصائص الرسالة العالمية الخاتمة. فلابد من حصر مراد الله تعالى من آيات القرآن بما تسيغة اللغة العربية و ما تحتمله من وجوه تصريف المعاني و استعمالاتها في عصر التنزيل.
        · القول بالرأي في القرآن مذموم، و خاصة إذا كان الداعي إليه الهوى أو التعصب لمقررات مسبقة تُستدعَى إليها الآيات لتبريرها و تسويغها. و التأويل الذي يُخرج الألفاظ عن معانيها الظاهرة المتبادرة لا نلجأ إليه إلا عند تعذر حمل المعنى على ظاهر اللفظ لمصادمة حقيقة شرعية أو حقيقة كونية ثابتة . و لا بد أن يكون المعنى المستنبط جارياً على معرفة بلغة العرب و طرق اشتقاق المعاني و له ما يؤيده في مواضع أُخرى من القرآن و السنّة .
        · القرآن الكريم كتاب لا تنقضي عجائبه، و لا يحد معاني القرآن ما ذكره الأقدمون. فكل من استجمع من مقدمات علوم القرآن حظاً كافياً و امتلك ذوقاً وافياً يمكنه أن يتدبر و يستنبط من القرآن ما يفتح الله به عليه من المعاني مما لم يؤثر عن الأقدمين. فالقرآن يستجيب لحالات القلب و مواقف الإفتقار إلى الله، فيمُـنّ الله على من يشاء بهداية متجددة تناسب حال القارئ المتدبر و واقعه المتفرد. و ينفع في هذا المجال أن يتذكر القارئ ما نقله محمد اقبال من وصيه جده : يابني  اقرأ القرآن و كأنه يتنزل عليك.
        · القرآن الكريم كلام الله تجلى فيه لعباده بأسمائه و صفاته، و واجب العبد أن يتأدب بأدب من فهم معاني أسماء الله و صفاته سبحانه و فهم لوازمها. فيعطي العبد من عقله و قلبه و جوارحه ما تقـتضيه معاني و لوازم الأسماء بتوسط و اعتدال، فلا يصرفـه الإستغراق في عـبودية اسم عن مقتضيات و آداب عبودية اسم آخـر.
        ·  لا يفهم القرآن الكريم و لا ينتفع بهدايته إلا لمن أخذه وحدة متصلة متكاملة . فالتبعيض و التجزيء و عزل بعض الآيات عن جملة القرآن لا يعطي فهماً قرآنياً بل يعطي شذوذات و مبالغات لا تمثل حقيقة هداية القرآن. فالآية من القرآن لا تفهم إلا في سياقها و بوضعها في مكانها من جملة الآيات التي تعالج موضوعها أو تتصل به بنسب. و كذلك تتداخل و تتكامل المعاني في الآية الواحدة فلا ينفصل التشريع عن بيان حقائق العقيدة، و تتصل المواعظ و الدروس بجملة من أسماء الله و صفاته التي تصيغ قلب المؤمن بلوازمها ليكون مستعداً للإستجابة للموعظة.  
        · ذكر القرآن الكريم بعض الحقائق عن الكون و الخلق ليلفت نظر الإنسان و يدعوه إلى الملاحظة و التدبر و الإختبار ويضعه في مناخ علمي لينطلق في النظر إلى الكون و بناء الحضارة. و إن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات و التعاليم و المنطق و علم الحروف  و هذا لا يصح، فقد اتفق المفسرون أن قوله تعالى " و أنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء " أن - كلّ شيء- هو كليات الأشياء و أصولها مما يرجع إلى ما جاء القرآن لأجله من الهداية و التهذيب و التشريع. و يظل التحدي القرآني للبشرية " سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " قائماً يستجلي المؤمن آفاقه و يزداد إيماناً بقرآنه في كل ما فتح الله به على الناس من علوم  و معارف.
        · للقرآن الكريم وجهين متكاملين لا بد من استصحاب لوازمهما عند محاولة الفهم عن القرآن . فالقرآن من جهة نزل في نقطة من التاريخ على مجموعة بشرية لها مميزاتها و خصوصياتها و كان لا بد للقرآن من أن يستجيب لهذه الخصوصيات و ينطلق منها في مرحلة التأسيس للنموذج البشري الذي يتمثل الرسالة و يحملها و ينشرها . و القرآن من جهة أُخرى يحتوي على المعاني المطلقة المتعالية عن تحديدات الزمان و المكان و التي تمثل القيم و المفاهيم المجردة الخالدة التي تصلح بها البشرية على مدى الزمان . و لا بد لقارئ القرآن أن يستحضر هذين الوجهين أثناء محاولة الفهم و يعطي كل وجه ما يستحقه من الإعتبار لإخراج القرآن من التاريخية المنحصرة بعصر النبوة إلى أفق استجلاء القيم الخالدة و محاولة تنزيل هداية القرآن على واقعه لتزكيته.
        ·هداية القرآن الكريم ترتبط بمقاصد عليا و التي تشكل المعيار القرآتي  لتقييم الفعل و السلوك الإنساني و هي – الـتـوحـيد لله – و الـتـزكـية للإنسان – و التسخير و الـعـمـران للكون - 
        · هداية القرآن لها هدف مرسوم و غاية تتمحور حولها و تخدمها أغراض القرآن و موضوعاته و معانيه, و الغفلة عن غاية القرآن سبب في حجب كنوزه و سبب في عدم الفهم عن الله منه .
        · غاية وهدف هداية القرآن إخراج أمة تستجمع صفات الخير و مؤهلات الإستخلاف عن الله في الأرض، لتستقر الحياة الطيبة في الأرض، و يستأصل الفساد في الحرث و النسل , و تنتهي معاناة الضنك، وتعم الرحمة للعالمين.
 " و لتكن منكم أمـًة "     " كنتم خير أمـًة "             " و كذلك جعلناكم أمـًةَ وسطـاً "          " و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "
        · خطاب القرآن للإنسان هو خطاب للفرد ليرتقي في معارج التزكية في عقله و قلبه و جوارحه، ليكون مؤهلاً لحمل مسؤولية الإستخلاف و النهوض بتبعات استقرار الحياة الطيبة في الأرض و ليكون قادراً على كبت الفساد و محاربته و نشر الرحمة للعالمين، و ذلك كفرد في أمة و لبنة في بناء و عضو في جسد .
        ·  إذا تحدث القرآن عن العقيدة فهو يقرر حـقائق كونية عن الوجود و المنشأ و المصير ليصيغ العقل و القلب بعيداً عن الأوهام و الخرافة، و يستخرج من الإنسان أقصى ما تبلغه بشريته من الخير و إرادة الخير و محبة الخير , و ليكون بعد ذلك جندياً في أمةٍ مهمتها الكونية الدعوة إلى الخير. فما اختار الله سبحانه أن يخبر عباده بشيء من الغيب إلا لوجود أثر للعلم بذلك الغيب على سلوك المؤمن و مزاجه و طريقة فهمه و معالجته للأمور. و ملاحظة هذا الأفق العملي في بيان آثار قضايا و مفردات الإيمان على المشاعر و المزاج و السلوك يوجه المؤمن بعيداً عن التجريد و التعقيد الذي صبغ الحديث عن قضايا الإعتقاد.
        ·إذا تحدث القرآن الكريم عن العبادة , فهو يصل العبد بالله سبحانه و تعالى ليستمد منه الرفعة و القوة و يستعين به لمواجهة ضعفه و تسلط الشهوات عليه . " إنّ الإنسان خلق هلوعا , إذا مسه الخير منوعا , و إذا مسّه الشّرّ  جزوعا , إلا المصلين ".
        · إذا تحدث القرآن الكريم عن الشرائع و الأوامر و النواهي فهو يبني أمة هدفها صلاح الكون و عمران الأرض و نشر الرحمة و رفع الفساد و الضنك و الضيق و الحرج عن العالمين .
        · إذا تحدث القرآن عن الأخلاق فهو يوجه الإنسان الفرد ليرتقي في معارج الكمال الإنساني بعيداً عن رعونات الجهل و التفاهات و التردي في مادية الطين و ظلمة الحمأ المسنون. و هو يوجه الأمة كذلك إلى أخلاق الكمال الجماعي من التعاون على الخير و التكافل و التراحم و كف الأذى  بعيداً عن كل ما يثير التنازع و العداوات و يوهن الثقة و الإعتزاز بالإنتماء إلى أمة الإسلام.
        · لا يوجه القرآن الكريم خطابه إلى المؤمنين خاصة و لكنه يوجه خطابه كذلك للإنسان و إلى الناس كافة و إلى بني آدم و ذلك لبناء و تأصيل المشترك الإنساني و تأسيس قاعدة للحوار و التعايش، ليتم البيان و يتحقق الإختيار الحر ليهلك من هلك عن بينة و يحيا من حيّ عن بينة.
        · ليست قصص القرآن مادة تسلية أو تفكه أو تجديد نشاط، و لكنها أسلوب أدبي رفيع لسرد الدروس و العبر و الفوائد و المواعظ مما تضمنته القصص من عواقب الخير والشر أو التنويه بأصحابها أو فوائد التاريخ و التشريع و الحضارة. لذلك لم تأت قصص القرآن متتالية متعاقبة كما يكون كتاب التاريخ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها، و جاءت القصص من غير ذكر لتفاصيل المكان و الزمان و الأسماء مما لا يتعلق بغرض الإعتبار. فالإشتغال بهذه التفاصيل خروج عن مقاصد القرآن من القصص و ذكر أخبار السالفين.
        · عموم اللفظ مقدم على خصوص السبب .  و قد أولع كثير من المفسرين بروايات أسباب النـزول و أغربوا في ذلك و أكثروا حتى أوهموا الناس أن القرآن لا يتنزل إلا لأجل حوادث تدعو إليها أو بما قد يوهم انحصار المعنى المراد بالسبب أو القصة المذكورة . فلا بد من الإنتباه إلى التثبت من الروايات التي ترخص كثير من المفسرين فذكروها دون تمحيص. و لا بد من الإنتباه إلى خطورة حصر معاني القرآن بالماضي و أحداث فترة النبوة, و لا بد من فهم ما يذكر من أسباب النـزول على أنها أمثلة لفهم المراد لا تحد معاني النص المطلقة الخالدة التي تستوعب نماذج السلوك الإنساني إلى قيام الساعة .  
        · كل حكاية وقعت في القرآن فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها ردّ لها أو لا . فإن وقع ردّ فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي و كذبه , و إن لم يقع ردّ فذلك دليل على صحة المحكي و صدقه .
        ·المحكمات من آيات القرآن الكريم هي الآيات واضحة الدلالة و التي لا مجال للتردد في تعيين المراد منها , و هي أصل القرآن و مرجعه , و هي أصول الإعتقاد و التشريع و الآداب و المواعظ . و المتشابهات من آيات القرآن الكريم هي الآيات المقابلة للمحكمات و هي التي دلت على معان تشابهت في أن يكون كل منها هو المراد , أو هي الآيات التي يكون معناها صادقاً بصور متناقضة أو غير مناسبة لأن تكون مراداً. فالراسخون في علم الكتاب و معرفة محامله و أغراضه هم الذين يفهمون القرائن و الأدلة التي توجب صرف اللفظ من المتشابه عن ظاهر معناه إلى معنى آخر يوافق المحكمات و له باللفظ المتشابه صلة و قرابة .
        · الآيات المتشابهات تتعرض لبيان طرف من عالم الغيب الذي لم يؤهل العقل الإنساني لإدراك حقائقه و تفاصيل كيفياته، فخاطب القرآن العقل الإنساني بما يستطيع معرفة لوازمه و مقتضياته. فالمؤمن بالغيب و بأسماء الله و صفاته لا يبحث عن الكيفيات التي لا يستطيع إدركها و لا تفيده معرفتها، و لكنه يحاول أن يفهم لوازم المعاني فينضبط تفكيره و تستقيم  مشاعره بمقتضياتها. كما قال الأعرابي : لا نعدم من رب يضحك خيراً.
        · لا بد من مراعاة السياق الذي وردت ضمنه آية من الآيات. فالنظر إلى ما تقدم أو ما لحق من الآيات و النظر إلى أغراض السورة الواحدة و المحور الذي تدور حوله مواضيعها مهم في تحديد المعنى المراد و إزالة ما قد يوهم التعارض و التشابه.

        · كتب التفسير مصدر مهم لمعرفة معاني القرآن. و هي في النهاية جهد بشري لا يدعي أحد عصمته من الوقوع في الخطأ. و لكل من كتب التفسير طريقة خاصة في ابراز المعاني أو اهتمام جزئي بموضوع من المواضيع بحسب ثقافة المفسر و اختصاصه و المزاج العام الذي يطبع عصره و زمانه. و قد ترخص كثير من المفسرين في ذكر الواهي من القصص و الروايات و الإسرائيليات. فلابد من تفعيل قواعد الفهم عن القرآن عند الإسترشاد بكتب التفسير و لابد من السعي لفهم القرآن في إطاره العالمي الشامل و رسالته المستوعبة لحياة الإنسان و أشواق روحه و تطلعات فكره و متطلبات حياته المادية الفردية و الجماعية. 

Sunday, 1 February 2015

من عند أنفسكم


من عند أنفسكم
في الجو المشحون بالألغاز و الغموض و الأكاذيب و المناورات و الذي يحيط بما يسمى " داعش "، يحس المسلم اليوم أن حملة التشويه للإسلام و المسلمين قد بلغت مع المعتوهين من أنصار هذه المجموعة غايتها. و تمضي هذه الحملة بتنسيق من جميع الأطراف في النظام الدولي لتدفع المؤمنين إلى متاهات الفتنة عن دين الله و الحيرة و الضياع.
و في هذه الظروف الحالكة يحسن بالمسلم الواعي أن يتذكر كلمات من الحكمة أطلقها " عباس محمود العقاد " في ختام كتابه     " الإسلام في القرن العشرين " : ( مهما تكن السياسة فالعقيدة أقوى منها، و مهما تكن الدولة فالأمة هي الباقية )
فالتركيز على العقيدة و خصائصها و مقتضياتها في النفس و الحياة، و الإنتماء إلى الأمة و هويتها و مهمتها الكونية، هو الذي يجعل من الفتن فرصاً لمراجعة الثغرات في تراثنا الفقهي و القانوني و تقرير ما يجب تقريره بشأنها بعيداً عن الورع البارد الذي يصور المراجعة الواجبة تطاولاً و جرأة على التراث و السلف، في الوقت الذي يتقن أعداء الأمة كشف هذه الثغرات و استغلالها و توظيفها.
تتعالى الأصوات باستنكار ما يفعله السفهاء من غلمان " داعش " من إعادة العمل بالإسترقاق و الإستعباد و اتخاذ الإماء، بعد أن طوى التاريخ هذه الصفحة الكئيبة من تاريخ البشرية.
لقد عالج كثير من علماء المسلمين المعاصرين موضوع الرق و وضعوه في إطاره التاريخي العالمي. و قرروا أن الإسلام شرع العتق و لم يشرع الرق. و أن الرق الذي أقره الإسلام هو من قبيل المعاملة بالمثل في نظام عالمي لا يمكن إلغاؤه من طرف واحد. و أن الرق في القرآن الكريم يجب أن يفهم على أنه مثال عن التدرج في تقرير الأحكام، حيث نتلو آيات من القرآن و نعلم أنها لا تمثل الحكم النهائي في موضوعها. وذلك مثل آيات تحريم الخمر و الآيات المتعلقة بالميراث و الولاء و الحدود و غيرها. وقد قرر الإمام ابن عاشور ذلك في كتابه " مقاصد الشريعة الإسلامية " فقال : و من قواعد الفقه قول الفقهاء " الشارع متشوف للحرية " فذلك استقراؤه من تصرفات الشريعة التي دلت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبودية و تعميم الحرية.
و أسهب كثير من العلماء من الشرق و الغرب في بيان الفرق الشاسع بين الرق الذي أقره الإسلام – إلى حين – و بين الرق في مجتمعات غير المسلمين الذي يجرد من الإنسانية. لقد كان الرق في مجتمعات المسلمين عامل اندماج و احتواء و تطبيع للوافدين الجدد إلى مجتمعات المسلمين في ظروف الحرب. و سن الإسلام من التشريعات و الضوابط القانونية بما يعطي الرقيق فرصة كبيرة للتحرر بالمكاتبة و الكفارات و استحقاق مال الزكاة. و حفظ الإسلام حياة الرقيق بقوانين المماثلة في القصاص، و حفظ كرامتهم و انسانيتهم بالتوصيات النبوية بتـشجيع الرفق بهم و مساواتهم في المطعم و الملبس.
أما الرق في مجتمعات غير المسلمين فقد كان رمزاً للوحشية و التجريد من الإنسانية. و كانت قوانين الرق في مجتمعات غير المسلمين تؤصل طبقية صارمة  تجعل الخروج من ربقة العبودية من المحال. حتى أن العالم المسلم    " توماس كليري " يقرر أن المعاملة التي كان الأرقاء يتلقونها  و الحقوق التي يتمتعون بها في مجتمعات المسلمين، مثل تعلم القراءة و الكتابة و حق افـتداء النفس بالمكاتبة، و غير ذلك، كانت تعتبر من الجرائم التي كانت تعاقب عليها قوانين الرق في أمريكا بأشد العقوبات.
إن مما يلفت النظر حقاً أن كل المساهمات الجادة لكثير من علماء المسلمين في توجيه هذا الموضوع ليفهم ضمن كلياته و أصوله الشرعية و خلفياته التاريخية، ظلت غائبة عن المنظومة الفقهية التي تدرّس كتبها في المعاهد الشرعية إلى يومنا هذا. و ما زال الطلاب و الدارسون يمرون على تفاصيل أحكام العبيد و الإماء دون أي ذكر لما جرى في الدنيا من إلغاء لهذا النظام أو عقد لمعاهدات دولية في هذا الشأن حتى و لو كان من جملة من أقرها و أمضاها السلطان العثماني. 
فهل نستغرب بعد هذا أن نسمع بين الحين و الآخر أن بقايا من ممارسات الرق ما زال موجوداً في زوايا و أطراف من العالم الإسلامي ؟
 و هل نستغرب أن نجد من يدافع عن نظام الرق و استمراره بين المسلمين.
 و هل نستغرب أن يرتكب السفهاء من غلمان داعش و أمثالهم جرائم ضد الإنسانية و هم مطمئنون أن المنظومة الفقهية تقر و  تدعم و تبرر – في نظرهم – ما يفعلون ؟
إن المراجعة المطلوبة لتراثنا و المنظومة الفقهية يجب أن تضع أمثال هذه الموضوعات الخطيرة في إطارها الصحيح. و يجب أن تكون البداية في هذه المراجعة تقرير الكليات و المقاصد الشرعية، و الخروج من الإرتهان للتارخ و الممارسات التاريخية لمجتمعات المسلمين و خاصة تلك التي لا تجد ما يبررها و يسندها في الأصول و التوجه العملي الواقعي في فهم التراث. فإذا تم انجاز هذه المراجعة كان على المشتغلين باعداد المناهج أو بالتعليم الشرعي و أن يجعلوا من نتائج المراجعات دليلاً و مدخلاً للدراسة يضع الأمور في نصابها حتى يفهم ما قرره العلماء في ما دونوه ضمن سياقه التاريخي و ظروف كتابته و ينزع عنه هالة القداسة و المرجعية المطلقة التي لا تجوز لغير القرآن.