قواعد
الفهم عن القرآن
·القرآن
الكريم كتاب هداية ليستقيم العقل و القلب و الجوارح على سنن الرشاد . و كل ما في القرآن من بلاغة و إعجاز و
نظم و أخبار و قصص و بشارة و إنذار هي
مؤيدات و مساعدات , و ليست بذاتها غاية مقطوعة عن معنى الهداية و الإستقامة.
·
بركة القرآن و هدايته مكفولة لمن قرأه بفهم و تدبر. و القراءة المقطوعة عن الفهم و
التدبر علامة هجر للقرآن و إخراج له عن دوره و وظيفته. و قد ذكر الفقهاء في آداب
قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم. و قال
الغزالي في الإحياء : التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية و التفهم أن يستوضح
من كل آية ما يليق بها كي تنكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تنكشف إلا للموفقين.
و قال : من موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيراً و اعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن
إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس و مجاهد و أن ما وراء ذلك تفسير بالرأي، فهذا من
الحجب العظيمة.
· نزل القرآن الكريم بلغة
العرب لحكمة يعلمها الله سبحانه " الله أعلم حيث يجعل رسالته ". و ما
يزال العلماء يحاولون كشف أسرار هذا الإختيار الرباني و الربط بين خصائص اللغة و
ميزاتها و بين خصائص الرسالة العالمية الخاتمة. فلابد من حصر مراد الله تعالى من
آيات القرآن بما تسيغة اللغة العربية و ما تحتمله من وجوه تصريف المعاني و
استعمالاتها في عصر التنزيل.
· القول بالرأي في القرآن
مذموم، و خاصة إذا كان الداعي إليه الهوى أو التعصب لمقررات مسبقة تُستدعَى إليها
الآيات لتبريرها و تسويغها. و التأويل الذي يُخرج الألفاظ عن معانيها الظاهرة المتبادرة
لا نلجأ إليه إلا عند تعذر حمل المعنى على ظاهر اللفظ لمصادمة حقيقة شرعية أو
حقيقة كونية ثابتة . و لا بد أن يكون المعنى المستنبط جارياً على معرفة بلغة العرب
و طرق اشتقاق المعاني و له ما يؤيده في مواضع أُخرى من القرآن و السنّة .
· القرآن الكريم كتاب لا تنقضي عجائبه، و لا يحد معاني القرآن ما ذكره
الأقدمون. فكل من استجمع من مقدمات علوم القرآن حظاً كافياً و امتلك ذوقاً وافياً
يمكنه أن يتدبر و يستنبط من القرآن ما يفتح الله به عليه من المعاني مما لم يؤثر
عن الأقدمين. فالقرآن يستجيب لحالات القلب و مواقف الإفتقار إلى الله، فيمُـنّ
الله على من يشاء بهداية متجددة تناسب حال القارئ المتدبر و واقعه المتفرد. و ينفع
في هذا المجال أن يتذكر القارئ ما نقله محمد اقبال من وصيه جده : يابني اقرأ القرآن و كأنه يتنزل عليك.
·
القرآن الكريم كلام الله تجلى فيه لعباده بأسمائه و صفاته، و واجب العبد أن يتأدب
بأدب من فهم معاني أسماء الله و صفاته سبحانه و فهم لوازمها. فيعطي العبد من عقله
و قلبه و جوارحه ما تقـتضيه معاني و لوازم الأسماء بتوسط و اعتدال، فلا
يصرفـه الإستغراق في عـبودية اسم عن مقتضيات و آداب عبودية اسم آخـر.
· لا يفهم القرآن الكريم و لا ينتفع بهدايته إلا
لمن أخذه وحدة متصلة متكاملة . فالتبعيض و التجزيء و عزل بعض الآيات عن جملة
القرآن لا يعطي فهماً قرآنياً بل يعطي شذوذات و مبالغات لا تمثل حقيقة هداية
القرآن. فالآية من القرآن لا تفهم إلا في سياقها و بوضعها في مكانها من جملة
الآيات التي تعالج موضوعها أو تتصل به بنسب. و كذلك تتداخل و تتكامل المعاني في
الآية الواحدة فلا ينفصل التشريع عن بيان حقائق العقيدة، و تتصل المواعظ و الدروس
بجملة من أسماء الله و صفاته التي تصيغ قلب المؤمن بلوازمها ليكون مستعداً
للإستجابة للموعظة.
· ذكر القرآن الكريم بعض
الحقائق عن الكون و الخلق ليلفت نظر الإنسان و يدعوه إلى الملاحظة و التدبر و
الإختبار ويضعه في مناخ علمي لينطلق في النظر إلى الكون و بناء الحضارة. و إن كثيراً
من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين
أو المتأخرين من علوم الطبيعيات و التعاليم و المنطق و علم الحروف و هذا لا يصح، فقد اتفق المفسرون أن قوله تعالى
" و أنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء " أن - كلّ شيء- هو كليات
الأشياء و أصولها مما يرجع إلى ما جاء القرآن لأجله من الهداية و التهذيب و
التشريع. و يظل التحدي القرآني للبشرية " سنريهم آياتنا في الآفاق و في
أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " قائماً يستجلي المؤمن آفاقه و يزداد إيماناً
بقرآنه في كل ما فتح الله به على الناس من علوم و معارف.
· للقرآن الكريم وجهين متكاملين لا بد من استصحاب لوازمهما عند محاولة
الفهم عن القرآن . فالقرآن من جهة نزل في نقطة من التاريخ على مجموعة بشرية لها
مميزاتها و خصوصياتها و كان لا بد للقرآن من أن يستجيب لهذه الخصوصيات و ينطلق
منها في مرحلة التأسيس للنموذج البشري الذي يتمثل الرسالة و يحملها و ينشرها . و
القرآن من جهة أُخرى يحتوي على المعاني المطلقة المتعالية عن تحديدات الزمان و
المكان و التي تمثل القيم و المفاهيم المجردة الخالدة التي تصلح بها البشرية على
مدى الزمان . و لا بد لقارئ القرآن أن يستحضر هذين الوجهين أثناء محاولة الفهم و
يعطي كل وجه ما يستحقه من الإعتبار لإخراج القرآن من التاريخية المنحصرة بعصر
النبوة إلى أفق استجلاء القيم الخالدة و محاولة تنزيل هداية القرآن على واقعه
لتزكيته.
·هداية القرآن الكريم ترتبط بمقاصد عليا و التي تشكل
المعيار القرآتي لتقييم الفعل و السلوك
الإنساني و هي – الـتـوحـيد لله – و الـتـزكـية للإنسان – و التسخير و الـعـمـران
للكون -
·
هداية القرآن لها هدف مرسوم و غاية تتمحور حولها و تخدمها أغراض القرآن و موضوعاته
و معانيه, و الغفلة عن غاية القرآن سبب في حجب كنوزه و سبب في عدم الفهم عن الله
منه .
·
غاية وهدف هداية القرآن إخراج أمة تستجمع صفات الخير و مؤهلات الإستخلاف عن الله
في الأرض، لتستقر الحياة الطيبة في الأرض، و يستأصل الفساد في الحرث و النسل , و
تنتهي معاناة الضنك، وتعم الرحمة للعالمين.
" و لتكن منكم أمـًة " " كنتم خير أمـًة " " و كذلك جعلناكم أمـًةَ وسطـاً "
" و ما أرسلناك إلا رحمة
للعالمين "
·
خطاب القرآن للإنسان هو خطاب للفرد ليرتقي في معارج التزكية في عقله و قلبه و
جوارحه، ليكون مؤهلاً لحمل مسؤولية الإستخلاف و النهوض بتبعات استقرار الحياة
الطيبة في الأرض و ليكون قادراً على كبت الفساد و محاربته و نشر الرحمة للعالمين،
و ذلك كفرد في أمة و لبنة في بناء و عضو في جسد .
· إذا تحدث القرآن عن العقيدة فهو يقرر حـقائق
كونية عن الوجود و المنشأ و المصير ليصيغ العقل و القلب بعيداً عن الأوهام و
الخرافة، و يستخرج من الإنسان أقصى ما تبلغه بشريته من الخير و إرادة الخير و محبة
الخير , و ليكون بعد ذلك جندياً في أمةٍ مهمتها الكونية الدعوة إلى الخير. فما
اختار الله سبحانه أن يخبر عباده بشيء من الغيب إلا لوجود أثر للعلم بذلك الغيب
على سلوك المؤمن و مزاجه و طريقة فهمه و معالجته للأمور. و ملاحظة هذا الأفق
العملي في بيان آثار قضايا و مفردات الإيمان على المشاعر و المزاج و السلوك يوجه
المؤمن بعيداً عن التجريد و التعقيد الذي صبغ الحديث عن قضايا الإعتقاد.
·إذا
تحدث القرآن الكريم عن العبادة , فهو يصل العبد بالله سبحانه و تعالى ليستمد منه
الرفعة و القوة و يستعين به لمواجهة ضعفه و تسلط الشهوات عليه . " إنّ
الإنسان خلق هلوعا , إذا مسه الخير منوعا , و إذا مسّه الشّرّ جزوعا , إلا المصلين ".
·
إذا تحدث القرآن الكريم عن الشرائع و الأوامر و النواهي فهو يبني أمة هدفها صلاح
الكون و عمران الأرض و نشر الرحمة و رفع الفساد و الضنك و الضيق و الحرج عن
العالمين .
· إذا تحدث القرآن عن
الأخلاق فهو يوجه الإنسان الفرد ليرتقي في معارج الكمال الإنساني بعيداً عن رعونات
الجهل و التفاهات و التردي في مادية الطين و ظلمة الحمأ المسنون. و هو يوجه الأمة
كذلك إلى أخلاق الكمال الجماعي من التعاون على الخير و التكافل و التراحم و كف
الأذى بعيداً عن كل ما يثير التنازع و العداوات
و يوهن الثقة و الإعتزاز بالإنتماء إلى أمة الإسلام.
· لا يوجه القرآن الكريم
خطابه إلى المؤمنين خاصة و لكنه يوجه خطابه كذلك للإنسان و إلى الناس كافة و إلى بني
آدم و ذلك لبناء و تأصيل المشترك الإنساني و تأسيس قاعدة للحوار و التعايش، ليتم
البيان و يتحقق الإختيار الحر ليهلك من هلك عن بينة و يحيا من حيّ عن بينة.
· ليست قصص القرآن مادة
تسلية أو تفكه أو تجديد نشاط، و لكنها أسلوب أدبي رفيع لسرد الدروس و العبر و
الفوائد و المواعظ مما تضمنته القصص من عواقب الخير والشر أو التنويه بأصحابها أو
فوائد التاريخ و التشريع و الحضارة. لذلك لم تأت قصص القرآن متتالية متعاقبة كما
يكون كتاب التاريخ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها، و جاءت القصص من غير
ذكر لتفاصيل المكان و الزمان و الأسماء مما لا يتعلق بغرض الإعتبار. فالإشتغال
بهذه التفاصيل خروج عن مقاصد القرآن من القصص و ذكر أخبار السالفين.
·
عموم اللفظ مقدم
على خصوص السبب . و قد أولع كثير من المفسرين بروايات أسباب
النـزول و أغربوا في ذلك و أكثروا حتى أوهموا الناس أن القرآن لا يتنزل إلا لأجل
حوادث تدعو إليها أو بما قد يوهم انحصار المعنى المراد بالسبب أو القصة المذكورة .
فلا بد من الإنتباه إلى التثبت من الروايات التي ترخص كثير من المفسرين فذكروها
دون تمحيص. و لا بد من الإنتباه إلى خطورة حصر معاني القرآن بالماضي و أحداث فترة
النبوة, و لا بد من فهم ما يذكر من أسباب النـزول على أنها أمثلة لفهم المراد لا
تحد معاني النص المطلقة الخالدة التي تستوعب نماذج السلوك الإنساني إلى قيام
الساعة .
·
كل حكاية وقعت في القرآن فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها ردّ لها أو لا . فإن وقع
ردّ فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي و كذبه , و إن لم يقع ردّ فذلك دليل على صحة
المحكي و صدقه .
·المحكمات من آيات القرآن الكريم هي الآيات واضحة الدلالة
و التي لا مجال للتردد في تعيين المراد منها , و هي أصل القرآن و مرجعه , و هي
أصول الإعتقاد و التشريع و الآداب و المواعظ . و المتشابهات من آيات القرآن الكريم
هي الآيات المقابلة للمحكمات و هي التي دلت على معان تشابهت في أن يكون كل منها هو
المراد , أو هي الآيات التي يكون معناها صادقاً بصور متناقضة أو غير مناسبة لأن
تكون مراداً. فالراسخون في علم الكتاب و معرفة محامله و أغراضه هم الذين يفهمون
القرائن و الأدلة التي توجب صرف اللفظ من المتشابه عن ظاهر معناه إلى معنى آخر يوافق
المحكمات و له باللفظ المتشابه صلة و قرابة .
· الآيات المتشابهات تتعرض لبيان طرف من عالم الغيب الذي لم يؤهل
العقل الإنساني لإدراك حقائقه و تفاصيل كيفياته، فخاطب القرآن العقل الإنساني بما
يستطيع معرفة لوازمه و مقتضياته. فالمؤمن بالغيب و بأسماء الله و صفاته لا يبحث عن
الكيفيات التي لا يستطيع إدركها و لا تفيده معرفتها، و لكنه يحاول أن يفهم لوازم
المعاني فينضبط تفكيره و تستقيم مشاعره
بمقتضياتها. كما قال الأعرابي : لا نعدم من رب يضحك خيراً.
· لا بد من مراعاة السياق الذي وردت ضمنه آية من الآيات. فالنظر إلى ما
تقدم أو ما لحق من الآيات و النظر إلى أغراض السورة الواحدة و المحور الذي تدور
حوله مواضيعها مهم في تحديد المعنى المراد و إزالة ما قد يوهم التعارض و التشابه.
· كتب التفسير مصدر مهم لمعرفة معاني القرآن. و هي في النهاية جهد
بشري لا يدعي أحد عصمته من الوقوع في الخطأ. و لكل من كتب التفسير طريقة خاصة في
ابراز المعاني أو اهتمام جزئي بموضوع من المواضيع بحسب ثقافة المفسر و اختصاصه و
المزاج العام الذي يطبع عصره و زمانه. و قد ترخص كثير من المفسرين في ذكر الواهي
من القصص و الروايات و الإسرائيليات. فلابد من تفعيل قواعد الفهم عن القرآن عند
الإسترشاد بكتب التفسير و لابد من السعي لفهم القرآن في إطاره العالمي الشامل و
رسالته المستوعبة لحياة الإنسان و أشواق روحه و تطلعات فكره و متطلبات حياته
المادية الفردية و الجماعية.