Friday, 26 December 2014

الـمــنــاعــة


الــمــنـــــاعــــة
"مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى".
يقدم هذا الحديث الشريف أفقاً جديداً نستجلي من خلاله بعض الأدواء في جسم الأمة، حيث لا أمل في حياة رشيدة إلا بمعالجة تلك العلل و الأدواء و القضاء عليها.
فتشبيه النبي صلى الله عليه و سلم لكيان الأمة و جملة علاقاتها و أجهزتها و وظائفها بالجسد، يجعل من الضروري أن نعود إلى الأطباء للتعرف على ما تقرر عندهم من وظائف الأعضاء و عمل الأجهزة المختلفة في الجسم، ثم نعود بالتمثيل و التقريب لنرى كيف يمكن توظيف معرفتنا بجسم الإنسان و وظائف أعضائه في التعرف على طبيعة العلل الثقافية التي تصيب الأمة فيضطرب وجودها و يتعرض للأزمات.
يقرر الأطباء أن في جسم الإنسان جهاز مناعة يمكّـن الجسم من افراز المضادات الكافية للقضاء على الأثر الضار لأي مؤثر غريب يدخل الجسم، بحيث يتمكن الجسم في المستقبل من القضاء على هذا المؤثرعند الإصابة به أو التعرض له. و تصبح القدرة على المقاومة و الحماية من سمات  الجسم و خصائصه المتميزة. فالشفاء من الجدري يعني المناعة الدائمة. و كذلك الحصبة و جدري الماء و غيرها من الأمراض. و قد لا تدوم المناعة في بعض الحالات ولكن الجسم في كل مرة قادر على الدفاع و المقاومة.
فإذا انتقلنا إلى الطرف الآخر من التشبيه ، وجب أن يكون في الأمة جهاز للدفاع و المقاومة، بحيث تستطيع الأمة من خلال هذا الجهاز اكتشاف كل ما يخالف طبيعتها فتقاومه بما يبطل ضرره و يزيل أثره. فالأفكار و العادات و الأخلاق و الممارسات و غيرها من المؤثرات تدخل إلى جسم الأمة و تتفاعل معها و تعطي نتائجها. فالأمة الحية تستطيع أن تتعرف على هذه المؤثرات و تحدد منها ما يتعارض مع ثقافتها و هويتها و عقليتها و ما يميزها. و الأمة الحية كذلك لا تتكرر فيها الأحداث و المشكلات بنفس الشروط و المقدمات، لأن ذلك يعني أن جهاز الدفاع لم يعمل عمله و أن المناعة لم تكن شيئاً نستطيع الإطمئنان إليه عندما تكرر الحادث و أدى إلى النتائج نفسها بعد حدوثه أول مرة.  " و لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ". فالمفروض أن اللدغة الأولى علمت المؤمن و أرشدته إلى مواطن الخطر و مكامن الأذى، فاطمئنانه إلى الجحر و عدم التحرز منه يعني أن الخبرة المكتسبة من اللدغة الأولى لم تأخذ طريقها لتكون في البناء العقلي و النفسي الذي يستحضر الخبرات عند مواجهة أي ظرف مماثل مرة أخرى.
و حتى نتعرف على طبيعة عمل جهاز الدفاع الثقافي في الأمة أسرد القصة التالية :
في برنامج تلفزيوني عن الأمن الصناعي في بلد غربي، عرضت حادثة أدت إلى قطع أصبع أحد الذين يستعملون الكراسي القابلة للطي. و عند التحقيق في سبب الحادث تبين أن الطريقة التي صنع بها الكرسي عملت و كأنها شفرات مقص أدت إلى قطع أصبع. لم تقف القصة عند معالجة الرجل في المستشفى و التعويض عليه لفقد أصبعه، و لكن البرنامج نقل ما دار من حوار في إدارة الأمن الصناعي في ذلك البلد. لقد كان السؤال المطروح و الذي دار الحوار حول الإجابة عنه هو:
كيف نمنع حدوث هذه المأساة مرة أخرى ؟
تبع المناقشات جولة في الأسواق و استعراض جميع أنواع الكراسي لإختبار مدى خطورة استعمالها. و تبع ذلك أن سحبت من الأسواق أنواع الكراسي التي ثبت خطورة استعمالها. و تبع ذلك أن عرضت مصانع صناعة الكراسي نماذج من تصميم جديد لا تعرّض مستعمليها للخطر. و تأتي الخاتمة التي تضع الحد الفاصل لتكرر المأساة. لقد تم تعديل المواصفات الرسمية لصناعة الكراسي و أصبح لهذه الصناعة أعراف جديدة لا تجوز مخالفتها بقوة القانون.
و في ذلك المجتمع لا يمكن أن يتكرر حدوث جريمة بالطريقة ذاتها، و ذلك لأن دراسة طريقة تنفيذ الجريمة و دراسة الثغرات التي مكنت المجرم من تنفيذ جريمته، تعطي العاملين على أمن المجتمع أفكاراً جديدة لصياغة طرق و وسائل حماية الناس (و ذلك ليس على مستوى مدينة أو قطر بل على مستوى حضارة بأكملها).
و كذلك تجري دراسة ملابسات حوادث السير و اصطدام المركبات في الطرق لتحديد سبب الحوادث و إجراء التعديلات اللازمة على تصميم الطريق أو علامات التنبيه و الإنذار أو قوانين حدود السرعة و وسائل فرضها و ذلك لضمان عدم تكرار الحوادث.
و كذلك يجري التحقيق في حوادث الحريق أو الإنهيار لمبنى من المباني لمعرفة سبب الحادث و اقتراح الترتيبات الفنية و الإدارية التي تضمن عدم تكرره . و بعد ذلك تصبح هذه الإقتراحات جزءاً من قانون البناء و مواصفات قياس الجودة التي لا يجوز مخالفتها بقوة القانون.
فكل مظاهر النشاطات و فعاليات مؤسسات المجتمع تدل على أن جهاز المناعة فيه لم يتعطل. فالجسم الحي يرتكس بشكل يمنع حدوث الضرر عندما يتكرر حدوث المؤثر الخارجي. فالدروس المستخلصة من الحوادث دخلت في التركيب النفسي و العقلي لمؤسسات المجتمع و شكلت مناعة تمد الناس بالأمن و الثقة و الإستقرار.
فوجود المناعة الثقافية في أي مجتمع تجعل رد الفعل الطبيعي عند حدوث أي حادث أو خلل، سؤالاً مُلِحّاً يجب أن تجند للإجابة عنه كل الجدية و الإمكانيات الإدارية و الفنية المتوفرة، مع الإلتزام الكامل بقانون السببية و التأكد من العلاقة المنطقية المطردة بين الأسباب و النتائج :
كيف نمنع تكرر ما حدث ؟
فإذا أخذت الأمة هذا السؤال بما يستحق من الإهتمام تفادت تكرر المصائب فيها. و إن أهملته و تجاهلته أو تغاضت عنه فهو مرض نقص المناعة ( AIDS ) يضرب بنتائجه ثقافة الأمة و قدرتها على البقاء و يوردها موارد الخسارة و الهلاك.