في زمـان
الـفـتـنـــة
في زمان
الفتن حيث يمعن أعداء الإسلام في محاولاتهم للتضليل و التشويه و يوظفون لأداء هذه
المهمة القذرة من أتقن نبش القبور و إثارة ما عفى عليه الزمان من ثارات التناحر
على النفوذ و المغانم في تاريخ المسلمين، يتوجب على كل مسلم غيور أن يعيد نظرته
إلى التاريخ لضبط المرجعية و الهوية و التبرؤ من التجاوزات و المبالغات و
الشذوذات.
في زمان
الفتن يتوجب على كل مسلم أن يستحضر كليات القرآن و السنة و أن يتواصل مع أحداث
السيرة النبوية و تاريخ الخلفاء الراشدين، فينكشف عوار التضليل و التشويه و يستشعر
المسلم اعتزازه بدينه و قيمه و أنه صاحب رسالة إنقاذ و رحمة للعالمين. و لا يتسرب
إليه الشعور بالدونية و الهوان أو الشعور بالذنب و الإثم و المسؤولية عما تقترفه
أيدي الغلاة المجرمين.
و من هنا
سأحاول تسجيل بعض ما جال في النفس و أنا أتفكر في محاولات التشويه و ما تثيره في
النفس من تطلع إلى معاني القدوة و الأسوة في سيرة النبي الكريم و ما تؤصله من
مبادئ و أصول.
- " إن الملوك إذا
دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة و كذلك يفعلون "
قررت
ملكة سبأ هذه الحقيقة الإنسانية فيما تؤول إليه صراعات البشر على النفوذ و الجاه و
السلطان. و أقر الله سبحانه هذه الحقيقة الواقعية بقوله " و كذلك يفعلون
". فالفساد يدخل على أهل القرى بتغيير ميزان الشرف و السيادة الذي تصنعه
أعراف التكافل و التناصر و القربى، إلى ميزان آخر يعتمد القوة الغاشمة و التسلط
بالقهر و العدوان.
- عندما بعث الله سبحانة خاتم الأنبياء محمد صلى
الله عليه و سلم بالرسالة الخاتمة، كذبت قريش و تعنتت و سلطت الأذى و الفتنة على
المؤمنين حتى اضطروهم إلى الخروج من ديارهم. و لما هاجر النبي الكريم إلى المدينة
كانت قريش تؤلب على النبي القبائل و تجمع و تحشد لتستأصل شأفة الدين الجديد و تقضي
على أتباعه. و لكن الله تعالى أراد لهذا الدين أن يظهر و يكتمل، و توالت الأحداث
حتى وصل النبي صلى الله عليه و سلم أطراف مكة بجيش عظيم من المؤمنين استعداداً للفتح الكبير.
استعرض
زعيم مكة أبو سفيان طرفاً من جيش المسلمين في طريقهم إلى مكة فالتفت إلى العباس و
قال : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. فرد عله العباس قائلاً : إنها النبوة يا أبا
سفيان.
وصل
النبي صلى الله عليه و سلم إلى مكة فأرسل منادياً ينادي في أهل مكة : من دخل بيته
فهو آمن، و من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. و في هذا الإعلان بيان واضح أن محمداً
لن يدخل مكة دخول الملوك بل سيدخل دخول الأنبياء ليحطم الأوثان و لا يعبث بنظام
السيادة و الشرف الذي تستقر به أحوال الناس فلا يتطرق إليها الفساد. لقد تعامل
النبي صلى الله عليه و سلم مع نظام القبيلة و العشيرة بما يضمن سكون الناس و
اطمئنانهم إلى أن الوضع الجديد لن يهدم منظومة السلم الأهلي الذي تعارفوا عليه. و
أن الوضع الجديد يقر ما ثبت صلاحه فيهم و يهدم ما ثبت ضرره لهم. لقد أعلن النبي
صلى الله عليه و سلم أن دماء و ثارات الجاهلية ليس لها اعتبار، و أن ربا الجاهلية
ليس له اعتبار. و نادى في بني شيبة ليسلمهم مفاتيح الكعبة و يقول هذا يوم الوفاء،
و ليفهم أهل مكة الذين عاندوا و كذبوا و استحقوا عقوبة الفاتح المنتصف أن محمداً
لن يدخل دخول الملوك بل سيدخل دخول الأنبياء الذين لا يرتبط انتصارهم بالفساد و
الإذلال لأهل الشرف و المكانة، فآمن أهل مكة جميعاً عندما أدركوا أن محمداً لا
ينافسهم بل جاء لينقذهم من السفاهة التي تورطوا بها و يقر ما تعارفوا عليه محاسن
العادات و مكارم الأخلاق.
لما دنا
النبي صلى الله عليه و سلم من مكة و أدرك أهلها أن لا طاقة لهم بلقاء جيش
المسلمين، لاذ بالفرار بعض من بالغوا في الأذى و الكيد للمسلمين لما توقعوه من
العقوبة و الإنتقام لما كان منهم. و كان من بين هؤلاء سهيل بن عمرو و عكرمة بن أبي
جهل. استأمنت زوجة سهيل و زوجة عكرمة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجيهما فأمنهما.
و انطلقت المرأتان وراء زوجيهما لتشجيعهما على العودة و مقابلة النبي الكريم بعد
ما أدركوا أن محمداً صنف آخر من الفاتحين لا يذل عنده عزيز.
لما
علم النبي صلى الله عليه و سلم بقدوم سهيل التفت إلى أصحابه ممن كان معه و قال :
يأتيكم سهيل بن عمرو فلا يشدّنّ أحدُكم النظر إليه. لقد علّم النبي الكريم أصحابه
أن نظرة محملقة متشفية تذكر بأضغان الماضي و حمية الجاهلية، قد تصد هذا الرجل
الشريف في قومه عن الإيمان و تعين عليه الشيطان فتأخذه العزة بالإثم.
و لما
علم النبي صلى الله عليه و سلم بقدوم عكرمة التفت إلى أصحابه ممن كان معه و قال :
يأتيكم عكرمة بن أبي جهل فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي و لا يبلغ الميت.
لقد علِم النبي الكريم أن مداخل الشيطان على ابن آدم متعددة متنوعة و قد يكون
أحدها الإنتصار لشرف العائلة و كرامة الآباء و الأجداد. فنهى أصحابه عن سب طاغية
من طواغيت الكفر لأن السب يهيج أحقاد الماضي و آلامه و لا يبني الوشائج و لا يفتح
القلوب للإيمان.
لقد
علـّم النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه أن المسلم ناظر أبداً إلى المستقبل بأمل و
ثقة بالفطرة الإنسانية، و لا تستهلكه آلام الماضي و مظالمه، بل يتجاوزها و هو يعلم
أن ما عند الله من الأجر للصابرين المحتسبين الذين ثبتوا على الإيمان و التزموا
بمقتضياته أضعاف أضعاف ما يجده المتشفي من لذة الغلبة و الإنتصار. و علّم النبي
صلى الله عليه و سلم أصحابه أن المسلم حريص على أن لا يكون حاجزاً بين الناس و
إقبالهم على الإيمان و لو بأدنى ما يُـتصور من الموانع و ما يحرّض على الصدود، و
لو بكلمة عابرة أو نظرة يفهم اللبيب معناها و مغزاها و يكون نتيجتها الصد عن سبيل
الله. فالمسلم يحزنه إعراض الناس عن الإيمان و هو دائم الإهتمام بما ينقذ الناس من
غفلتهم كما قال سيد الخلق صلى الله عليه و سلم : إنكم تهافتون على النار تهافت
الفَـراش و أنا آخذ بحُجُـزكم.
و بعد
وفاة النبي صلى الله عليه و سلم انساحت جيوش الفتح في بلاد الشام و العراق و مصر و
خضعت شعوب البلاد المفتوحة لسلطان المسلمين. و تصرف الفاتحون العرب عند دخولهم
الأمصار بوحي من دروس النبوة فلم يدخلوا على البلاد دخول الملوك بل دخلوا دخول
ورثة الأنبياء. و يستغرب المرء أن الذين كتبوا تاريخ تلك الفترة من تاريخ الفتوح
لم يلتفتوا إلى توثيق هذه الناحية المهمة من حياة الشعوب في المناطق المفتوحة و ما
أدخل الفتح على حياتهم من تغيير. و كان اهتمامهم منصرفاً إلى تسجيل الإنتصارات
العسكرية على جيوش الروم و الفرس، أما حياة الناس في المدن و الأمصار و القرى فلم
تأخذ منهم ما تستحق من اهتمام، أو لعل استمرار الحياة و النظام الإجتماعي على ما
كان عليه قبل الفتح لم يثر ما يستحق التسجيل و التدوين. و قد أشار المؤرخ "
غوستاف لوبون " إلى هذه الحقيقة بقوله ( لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من
العرب ) و لكنه لم يتوسع في بيان هذه الرحمة و ارتباطها بنموذج النبوة و تأسي
الفاتحين بها.
أما
المؤرخ الأمريكي " لابيدوس " فقد ذكر في كتابه ( تاريخ المجتمعات
الإسلامية ) بعض التفصيلات المهمة عن سياسة الخليفة عمر بن الخطاب في إدارة شعوب
البلاد المفتوحة بما يلقي الضوء على سبب اليسر و السهولة و السرعة التي تميز بها
انتشار الثقافة العربية و الدين الجديد بين أبناء الشعوب في المناطق المفتوحة.
ذكر
" لابيدوس " أن سياسة عمر بن الخطاب كانت تتميز بالإبتعاد عن التدخل في
شؤون سكان البلاد المفتوحة و خاصة في أمورهم الدينية و حياتهم الإقتصادية و
الإجتماعية. فمنع توزيع الأراضي على الفاتحين و أبقاها في أيدي أصحابها من
المزارعين. و أبقى على نظام جمع الضرائب بيد الدهاقين و أعوانهم من المساحين، و اكتفى
باستبدل النسبة التي كان الفلاحون يدفعونها و التي كانت تبلغ نصف المحصول إلى
الخراج أو العشر. و قد اختط عمر المدن الجديدة في الكوفة و البصرة و الفسطاط و
غيرها لإستيعاب جنود الفتح لتأمين النقاء الديني و الثقافي و اللغوي لقبائل العرب
المهاجرين، و للتقليل من مضايقة سكان البلاد في معايشهم و مساكنهم. و قد أصبحت هذه
المدن الجديدة مراكز أشعاع حضاري و ثقافي و ديني جذبت سكان البلاد المفتوحة إليها،
و اُنجزت عملية الإندماج الثقافي لسكان البلاد بشكل تدريجي و تعربت لغة الثقافة
حتى تبوّأ كثير من الموالي (سكان البلاد المفتوحة) مراكز علمية مرموقة في المجتمعات
الإسلامية عبر العصور.
لقد كان
نموذج فتح النبوة هو النموذج الغالب في انطلاق جيوش الفتح في العصر الأول. و لكن
مع مرور الوقت اتسم تغلب جيوش المسلمين بشيء من فساد الملوك بالقهر و الإذلال و
الإكراه و خاصة عندما صار الإقتتال داخلياً و تناحراً جاهلياً على النفوذ و
المغانم و السلطان. و سجل التاريخ صوراً من شناعات الفساد و التشفي و الإكراه لا
تتصل مع نموذج النبوة بقرابة أو نسب. و في زمن الفتنة حيث تكثر أصوات الذين
يحصرون أنفسهم في صفحات سوداء من تاريخ الأمة و يترجمون ذلك جلداً للذات و شعوراً
بالدونية و الهوان، استجابة لتصرفات خرقاء ممن يرفع شعارت و أسماء اسلامية بلا
مضمون أو مصداقية أو مرجعية. و تظهر أصوات مشبوهة موتورة لتزعم أن هذه التصرفات
الخرقاء هي ديدن المسلمين في تاريخهم الطويل في تعميم ظالم جاهل لتحقيق مآرب
الفتنة في دفع المسلمين للتخلي عن الإعتزاز بدينهم و اعتباره أصل مشكلاتهم و
معاناتهم.
لا بد من
الكف عن جلد الذات أو استشعار الهوان و الدونية مما يصنع الغلاة المتنطعون
المحسوبون على الإسلام. و أغلب الظن أن هؤلاء الغلاة متورطون في تنفيذ ما يريده
أعداء الأمة بتوجيه منهم و إمداد بالسلاح و المال ( فمن ثمارهم تعرفونهم ). و لا بد من التأكيد على أن المسلم الملتزم
بنموذج النبوة ما يزال يمثل الأمل للإنسانية التي تعاني من تجبر النظام الدولي و
ما يدخله على المجتمعات من الفساد و خلخلة النظام الإجتماعي و تعميق الفروق بين
قلة من الأغنياء و جماهير عريضة متزايدة من الفقراء. و الله غالب على أمره و لكن
أكثر الناس لا يعلمون.