Monday, 28 April 2014

التفسير الخرافي للإيمان


الـتـفـسيــر الخــــرافي للإيـمـــان

 

الإيمان هو التصديق الجـازم و الإطـمئنان القلبي اليـقيني بنسق فكري أو رؤية كونية أو ممارسات عملية . و الرؤية الكونية الإسلامية تتمثل في الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر , و ما ينبني على هذه الحقائق من أعمال القلب و الجوارح . فالإيمان هو ما وقر في القلب و صدقه العمل .

و الخرافة هي كل فكرة أو اعتقاد يصادم المنطق و بديهيات العقل و قوانين السببية في عالم الشهادة , أو يصادم منطق و قوانين عالم الغيب .

و الماديون يحصرون الحقيقة في ما تتناوله الحواس و تعاينه و تقيسه , و يحيلون إلى عالم الخرافة و الأوهام كل ما لا يقع في دائرة الحس من الروحانيات و الغيبيات . و يتعاملون مع كل ما في الكون بمنطق مادي صارم , و يزيد من حماستهم في هذا السبيل الإكتشافات العلمية التي زادت من قدرات الإنسان على التمكن من تسخير طاقات الكون إلى آفاق غير مسبوقة في تاريخ الإنسان . و عندما يواجَه الماديون بالسؤال الفطري الذي يلح على ضمير الإنسان عن المنشأ و المصير و الغاية و الهدف من الحياة , تتبدّى ألوان من العبثية و العدمية و التحكمات و المصادمات لمنطق الفطرة بما لا يؤهل الماديين الملحدين ليكونوا من أولي الألباب لأنهم متورطون في التفسير الخرافي للوجود , و لن نعرّج عليه في هذا المقال .

و المؤمنون يؤمنون بكل ما تنقله إليهم حواسهم و يتعاملون معه بمنطق عالم الأسباب مثلهم في ذلك مثل غيرهم من البشر , و لكنهم يتأدبون مع الله فينسبون كل ما يتعاملون معه من أسباب و قوانين و خواص للمادة و الأشياء إلى خلق الله و تدبيره و جَعْلِه و حكمته حتى لا يصيبهم غرور الماديين و جحودهم و انطماس بصيرتهم . و المؤمنون كذلك لا يحصرون الحقيقة في المادة و ما تدركه الحواس , و يؤمنون بعالم الغيب المتعالي عن الإدراك الحسي البشري . فالبشر يدركون وجود عالم آخر غير ما تنقله إليهم حواسهم بشكل مباشر , و ذلك  بشكل كلي اجمالي يدفعهم إلى الإيمان به حدسهم و فطرتهم و دلالات عالم الأسباب , و لكن إدراك الكيفيات و العلم التفصيلي بالجزئيات لا يتيسر لهم إلا أن يعتمدوا على الوحي الصادق فيقفون عند ما يخبرهم به دون زيادة أو نقصان.

و التفسير الخرافي للإيمان هو اختلال في فهم الإيمان يقحم تناقضاً بينه و بين التعامل بجدية و ثبات مع عالم الشهادة و عالم الأسباب , و هو اختلال في فهم الإيمان يصور العلم تحدياً للإيمان و مناقضاً له , و هو اختلال يصور الإيمان بديلاً عن عالم الأسباب , وهو اختلال يصور العلم بالأسباب إستغناءً عن خالق الأسباب . و هو اختلال يصور التوكل و الإيمان بالقدر مناقضاً للأخذ بالأسباب .

و التصور الإسلامي للإيمان يضعنا بشكل مباشر أمام تفريق واجب بين عالم الغيب و عالم الشهادة. فلكل من عالم الغيب و عالم الشهادة خصائصه و منطقه و قوانينه . و لابد للإنسان من فهم تلك الخصائص و المنطق و القوانين ليتعامل مع عالم الغيب بما يحقق مقاصد ما أطلعنا الله عليه من ذلك العالم , و ليتعامل مع عالم الشهادة بما يحقق امكانيات التسخير فتتأصل الحياة الطيبة و يرتفع العنت و الفساد .

و بين عالم الغيب و عالم الشهادة تواصل و علاقة , فالحياة الطيبة في هذه الدنيا لا تتحقق إذا تنكر الإنسان لفطرته و أشواقه و تطلعاته الروحية و انحصر في مادية جافة صارمة . و في ذات الوقت لا تتحقق الحياة الطيبة إذا انساق البشر وراء أوهام و تخرصات عن عالم الغيب لا تزيد حياتهم إلا عسراً و ضيقاً و مشقة . و الغيب الذي نتحدث عنه هو ما يتعلق بأحوال العوالم التي تتجاوز العالم المادي و الواقع الإنساني . أما أحوال الكون المادي و تغيراته , و أحوال البشر في هذه الحياة الدنيا سواء في الماضي البعيد أو في المستقبل المنتظر أو في أمكنة بعيدة لا تصل إليها حواسنا بالكشف و المعاينة المباشرة فهي من الغيب كذلك, و لكنه غيب إنساني يخضع في طبيعته و قوانينه إلى ما يعهده الناس في أمور دنياهم و تحجبهم عنه حجب الزمان و المكان التي قد تنكشف بتطوير الوسائل و الأدوات أو بالرواية الصادقـة المنضبطة بما أسماه ابن خلدون  " طبائع العمران " و التي تكشف زيف الأخبار و الروايات عند خروجها عن مألوف العادات و سنن حركاتها .

فعالم الغيب المتجاوز للواقع الإنساني – و هو ما يمكن تسميته بما وراء الطبيعة – له خصائص و منطق و قوانين :

و أول خصائص عالم الغيب أنه لا يعلم حقيقته إلا الله و لا مطمع للبشر أن يعلموا من حقيقته شيئاً إلا رموزاً و تقريبات عبر استعارات و مجازات أراد الله سبحانه أن يطلع عباده عليها لما يعلمه من صلاحهم و استقامة قلوبهم و عقولهم بمعرفتها و الإنضباط بلوازمها و مقتضياتها .

و ثانية خصائص عالم الغيب أنه مختلف في طبيعته و قوانينه و ماهيته عن عالم الشهادة المادي الحسي . فالله سبحانه و تعالى في ذاته الشريفة غيب لا مطمع للإنسان في معرفة حقيقته إلا ما أطلعنا الله سبحانه عليه من الأسماء و الصفات لنتأدب بلوازمها و مقتضياتها . و هو سبحانه أحدٌ ( ليس كمثله شيء ) تقدّس أن يحيط به علم أو تصور أو خيال , و كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك. و قد أجمع السلف و الخلف من علماء أمة محمد صلى الله عليه و سلم سواء منهم من قال بالتفويض أو بالتأويل أن المراد من صفات الله سبحانه المذكورة في القرآن الكريم كالوجه و اليد و العين و غيرها , ليس هو – على التحقيق –  ما وضعت له الألفاظ في أصل اللغة للدلالة على الجارحة أو الجسم أو الجهة أو غير ذلك . 

و القرآن الكريم يحدثـنا عن يوم القيامـة و يشيـر إليه بقوله : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات ) وتبديل الأرض والسماوات يوم القيامة يكون ( كما يقرر المفسرون ) بتغيير الأوصاف التي كانت لها وإبطال النُظم المعروفة فيها في الحياة الدنيا . و كذلك يـخـبـرنا القرآن الكريم عن نـعـيـم أهل الجنة بقوله    ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) فإن ما تدركه العقول ينتهي إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات، وما تدركه الأسماع من الأصوات ، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركِّبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسمُوعات ، فكل ذلك قليل في جانب ما أعدّ للصالحين في الجنة من هذه الموصوفات و التي تتجاوز وصف الواصفين , لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر . فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة : " فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت  ولا خطر على قلب بشر ". فكل محاولة بشرية لفهم عالم الغيب بمقياس إنساني أو التعبير عنه بمنطق حرفي بشري ستنتهي لا محالة إلى الخرافة التي تورطت فيها الوثنيات الجاهلية و مبالغات و غلو أتباع الديانات .

و الحديث عن قضايا من عالم الغيب مثل الروح و الموت و عذاب القبر و البعث و النشور و الصراط و الميزان و غير ذلك مما يقع تحت صنف الغيب الذي لا يحيط الإدراك البشري بكنهه و حقيقته , لا يمكن أن ينقل إليه إلا عبر استعارات و مجازات لا يقف المؤمن عند حروفها بل يتجاوز ذلك إلى لوازمها و مقتضياتها في قلبه و عقله و جوارحه . سأل النبي صلى الله عليه وسلم جاريةً : أين الله ؟ فأشارت إلى السماء  فقال هي مؤمنة . و قد علق الإمام الشاطبي على ذلك بقوله : كانت الجارية من قوم يعبدون الأصنام فلما أشارت أن الله في السماء فذلك يعني أنها تؤمن بإله متعالٍ ليس من نوع الأصنام التي يعبدها قومها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هي مؤمنة . و قد أخرج ابن ماجة عن وكيع بن حدس ، عن عمه أبي رزين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِـيَـرِه " قال : قلت : يا رسول الله  أو يضحك الرب ، قال : " نعم " ، قلت : لن نعدم من رب يضحك خيرا .

فعندما يتورط المؤمن في الفهم الحرفي و يستعمل منطق عالم الشهادة عند تعامله مع قضايا من عالم الغيب, ينتهي إلى تفكير خرافي يتجاهل المقاصد التربوية للإيمان بالغيب التي توجه الإنسان فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين روحه والقوة الكبرى التي صدرت عنها، وصدر عنها هذا الوجود , ولا تقوم حواجز الحس بين روحه وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات .

و التفسير الخرافي للإيمان يستدعي تفسيرات من عالم الشهادة ليشرح قضايا من عالم الروح و الغيب و غالباً ما يكون ذلك باستعمال مصطلحات علمية و رموز تكنولوجية لها في قلوب العوام سلطان و هيلمان و هي إلى العلم الزائف أقرب . و تنتشر تأويلات من هذا القبيل عبر صفحات الإنترنت هذه الأيام حيث تغيب المصداقية و المرجعية و التوثيق . فهل سمعت بأن العلم قد اكتشف ! ! أن الصلاة تريح الإنسان من التوتر و الإجهاد و ذلك لأنه حين يضع جبهته على الأرض باتجاه القبلة تنطلق أشعاعات خاصة عبر الأرض لتفرغ شحنات التوتر التي تزعج الإنسان , و لا أدري إن كان هناك دور للوضوء و النية في تفريغ الشحنات  ؟   و هل سمعت بأن الإستغفار يريح أعصاب الإنسان لينام نوماً مريحاً لأنه حين يتلفظ بحرف التاء في الإستغفار عند النوم يضغط اللسان على سقف تجويف الفم وذلك يحرض الغدة النخامية لتطلق الهرمونات المهدئة ! و هل سمعت بأن نبي الله يعقوب ارتد بصيراً لأن العلم أثبت أن عرق الإنسان يحوي مادة خاصة تفيد في معالجة العمى و هذا ما حواه قميص يوسف . و كأن القميص و صل بعد السفر الطويل و هو يقطر من عرق يوسف ! و قد سمعت مرة أحد الخطباء يشرح و يستفيض في أهمية ضبط حركات أعضاء الجسم في الصلاة و توجيه الأصابع باتجاه القبلة و تأثير ذلك على اعتدال مزاج الإنسان و صحته و سلامة أعضاء جسمه حتى أعلن أن من يداوم على ذلك لا يجد حاجة لإستعمال ( الفياغرا ) . إنه التفسير الخرافي للإيمان .

و هنا لا بد من التنبيه إلى أن استدعاء شهادات و تفسيرات من عالم الشهادة أمر سائغ و مطلوب إذا كان في إطار قوله تعالى " سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " , مثل شهادات الكشوف العلمية على قضايا أشار إليها القرآن مجملةً مما لم يكن معروفاً في عصر التنزيل . أما أن تستدعى تفسيرات عالم الشهادة لتغيير طبيعة المعجزات و الروحانيات لتظهر و كأنها ظواهر تحكمها قوانين عالم الشهادة و تجليات عالم الأسباب المادية , فهذا هو الأمر الخرافي المرفوض .

و تزخر بعض كتب الفقه بتهديدات للإصابة بأمراض و أدواء مرعبة نتيجة التورط في مخالفة بعض الآداب أو المندوبات . و بالطبع ليس هناك دراسات أو ملاحظات تثبت اطراد هذه الإصابات بهذه الأمراض سوى التألي على الله بإقحام عالم الغيب في قضايا عالم الشهادة على طريقة التفسير الخرافي للإيمان .

و عندما يتناول الحديث أخبار الأولياء و الأصفياء فهناك تضيع الحدود بين عالم الغيب و عالم الشهادة و تضيع صرامة عالم الأسباب و ترى الإدعاء بامتلاك التأثير في عالم الغيب و خرق عالم الأسباب بما لم يسمع بمثله لملك مقرب و لا نبي مرسل . إنه التفسير الخرافي للإيمان .

و من تجليات التفسير الخرافي للإيمان المزاجية و الإنتقائية في التطبيق . فترى من يهتم بالعبادات و الشعائر و الأذكار و الأوراد و لا تكاد تجد لهذه العبادة اثرها في التزكية استقامةً في السلوك أو تورعاً عن ظلم الناس و أكل حقوقهم . و كأن هؤلاء لم يعلموا أنه كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع و العطش, و كم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب و النصب , و أنه من تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من الله إلا بعداً , و أنه يغفر للشهيد كل شيء إلا الدّين . فرعاية حقوق العباد و السعي في نفعهم و البعد عن ظلمهم, و تزكية النفس عن الطمع فيما ايدي الناس, هو معيار الصلاح الذي يتقبل الله أهله و يجزيهم بفضله. حيث يكون الخرافيون محبوسين بمظالمهم ليستوفي الناس حقوقهم , و يلقوا جزاء ما أحدثوا بسلوكهم من فتنة و صد عن دين الله .

  و من أوضح تجليات التفسير الخرافي للإيمان تشويه معنى الإستخارة و جعلها بصورتها التي تشابه الإستقسام بالأزلام بديلاً عن الجهد الواجب في التحري للصواب و استشارة أهل الرأي و الخبرة عند القيام بأي عمل . فالإستخارة الواردة عن النبي صلى الله عليه و سلم هي دعاء يلتجأ العبد به إلى مولاه بعد أن بذل الجهد و استفرغ امكانيات معرفة الصواب أو فرص النجاح فيما ينوي أن يعمله و وصل في ذلك إلى قرار , يدعو متبرئاً من الحول و القوة و يقول يارب هذا مبلغ علمي فإن كتبت لي النجاح و التوفيق فهو فضلك و عطاؤك و توفيقك , و إن لم يتيسر هذا الأمر فلن تجد مني إلا الرضا بما قسمت و قدرت فلا اعتراض و لا سخط . فالإستخارة الواردة هي ابتهال للبراءة من العجب و الكبر عند النجاح و من السخط و القنوط و الإحباط عند الفشل , فأين هذا من التردد في اتخاذ القرار و التقصير في السؤال و البحث و الإستشارة , ثمّ  بناء القرار على منام أو انشراح صدر ينقدح عند فتح المصحف و الإستبشار بما يظهر من ألفاظ يسر أو وصف نعيم ؟ إنه التفسير الخرافي للإيمان .

أما عالم الشهادة فهو عالم مادي تتواصل معه الحواس بالمعاينة و الفحص و الإختبار . و قد منح اللهُ الإنسان من المواهب و الإمكانيات و سلطه على الكائنات في السماء و الأرض ليسخّرها و يستفيد منها بقدر ما يبذل من جهد في ملاحظة أسرار خلقها و اكتشاف سنن حركاتها و وجوه استعمالها . فما اكتشفه الإنسان من أسرار الخلق و آفاق الإرتفاق و الإستخدام هو منحة و توفيق إلهي يهبه الله لمن بذل الجهد و استخدم امكانيات عقله و فكره في ما سلطه الله عليه , بغض النظر عن إيمانه أو كفره . فالوجود المادي – و هو ما يسميه العلماء الوجود الخارجي تمييزاً له عن الوجود الذهني – هو الأصل الذي نرجع إليه بمزيد من الفحص و الملاحظة و الإختبار عندما يتطرق الشك و الإحتمال إلى علمنا و معرفتنا بأي شيء مادي أو ظاهرة كونية .

و التفسير الخرافي للإيمان يتعامل مع عالم الأسباب بمزاجية و انتقائية . و لو رجعنا إلى ما كتبه الإمام الغزالي في كتاب التوكل من " إحياء علوم الدين "  لوجدنا ذكراً مطولاً للخرافيين الذين يظنون أن بين الأخذ بالأسباب و بين التوكل مناقضة و مباينة . و قد بين الإمام الغزالي أنه لا معنى و لا وجود للتوكل إذا عدمت الأسباب فقرر القاعدة المهمة أن الأسباب هي محل التوكل ليقطع الطريق على الخرافيين الذين يظنون أن ما يتألون على الله به من قدرتهم على انجاز الكرامات و المعجزات يعفيهم مما تعبد الله به عباده من الخضوع للأسباب و السنن التي لا تتبدل و لا تتحول . " و غرّهم في دينهم ما كانوا يفترون "

و التفسير الخرافي للإيمان يحاول القفز فوق الجهد اللازم لإمكانية التعلم و الملاحظة و الإختبار و الكشف , بادعاء سند من النصوص لما فهمه و علمه بعض الأقدمين عن بعض ظواهر الكون و تجلياته المادية . فتستدعى النصوص بتأويلات حرفية و إقحـامات لا تــنسجم مع المـنـهجية السائـغـة في التعامل مع عالم الشهادة . أو يستخدمون سلاح الإرهاب الفكري بالتكفير و الخروج من الملة لمن صدّق بعض ما وصل إليه العلم المادي من نتائج و براهين .

و قد قرر العلماء – الذين لا ينتمون إلى التفسير الخرافي للإيمان – أنه لا يقبل تأويل لآية في كتاب الله يتعارض مع السنن الكونية الثابتة المستقرة أو الحقائق الوجودية التي لا يسع إنكارها ( و هو ما يسمونه مجاري العادات ) . وقد ضرب الإمام الشاطبي مثالاً عن هذه القضية قوله تعالى " و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً " فقال إنه لا يستقيم  فهم الآية على أنها خبر لأن الواقع المشاهد لا يصدق ذلك , إذ كثيراً ما يتسلط الكافرون على المؤمنين بالأسر و القتل و غير ذلك , فلا بد من صرف المعنى من الخبر إلى الإنشاء , أي لا تجعلوا للكافرين عليكم سبيلاً . و قرر العلماء كذلك أنه لا تقبل رواية عن الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم في شأن من قضايا عالم الشهادة أو الأمور المادية إذا تعارضت الرواية مع السنن الكونية الثابتة أو الحقائق الوجودية المستقرة . و تعد هذه القاعدة من أهم الضوابط المنهجية لنقد متون الحديث النبوي الشريف .

كنت في زيارة لإحدى البلاد العربية فأشار عليّ صاحبي أن أحضر صلاة الجمعة في أكبر مساجد المدينة حيث يخطب مفتي البلاد . كان موضوع الخطبة تعليقاً على أنباء انتشرت في وسائل الإعلام عن موعد خسوف متوقع للقمر خلال بضعة أيام . و قرر الخطيب أن كل من يدعي معرفة بوقت الخسوف أو الكسوف فقد كفر بما أنزل الله على محمد لأن الرسول صلى الله عليه و سلم قال أن الشمس و القمر آيتان من آيات الله.  و أطال الخطيب في أهمية التمسك بالكتاب و السنة و خطورة الإنسياق وراء الأفكار الضالة الهدامة . و بعد الصلاة قلت لصاحبي : إنه التفسير الخرافي للإيمان . ما اشد عجبي من هذا الخطيب و دعواه أن حساب وقت الخسوف أو الكسوف أمر يتعارض مع الإيمان و كأنه لم يقرأ ما كـتـبـه الإمام الغزالي عن هذا الموضوع منذ قرابة ألف عام في كتابه " المنقذ من الضلال " حيث قال :

 إعلم أن علوم الفلاسفة ستة أقسام : رياضية ، ومنطقية ، وطبيعية ، وإلهية ، وسياسية ، وخلقية . أما الرياضية: فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم ، وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً ، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها. وقد تولدت منها آفتان:  الأولى : ان من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها ، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة ، ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح وفي وثاقة البرهان كهذا العلم. ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتـهاونـهم بالشرع ما تناولته الألسن , فيكفر بالتقليد المحض . . . . . .

الآفة الثانية: نشأت من صديق للإسلام جاهل ، ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم ,  فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها ، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف ، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع . فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع ، لم يشك في برهأنه ، ولكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع ، فيزداد للفلسفة حبّاً وللإسلام بغضاً. ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم ، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات ، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية. . . . . اه

فلو قارن المرء بين عدد المعلومات البرهانية التي يتحدث عنها الإمام الغزالي في عصره و بين المعلومات البرهانية في هذا العصر - و هي لا شك تزيد آلاف المرات عنها في عصر الغزالي - لعلم أن الجناية على الدين التي يتحدث عنها الإمام الغزالي هي في هذا العصر جريمة و بطر للحق و صد عن سبيل الله و فتنة للقوم الظالمين . إنه التفسير الخرافي للإيمان .  

و قد يكون من أنجع ما يحمي المؤمن من الوقوع في التفسير الخرافي للإيمان أن يتذكر أن الله سبحانه و تعالى أنزل الشرائع لحكم و معانٍ تتعلق بسعادة الإنسان في الدنيا و الآخرة , ليحيا بالإيمان حياةً طيبة لا عسر فيها و لا ضنك و لا شقاء . فلكل تشريع مقصد عملي يرتبط بتأسيس و نشر الحياة الطيبة , و لكل غيب أطلعنا الله عليه مقصد عملي كذلك يزكو به القلب و يستقيم العقل و تخضع الجوارح . و المؤمن الموفق هو الذي  يتعامل مع عالم الشهادة بمنطقه الصارم و يرى أن هذا هو مما تعبّـد الله عباده به , و يحرص على زيادة معرفته بقوانين الكون و سنن و خصائص الأشياء التي يتعامل معها . و يطلب كذلك العلم بالشريعة باحثاً عن  المعاني و المقاصد , فليست الشريعة أشكال و طقوس و مراسم و آصار و أغلال , بل هي الحكم و المصالح و المقاصد التي تزكو بها النفس و تزكو الأرض و تستقر الحياة الطيبة . فالخرافة تتسلل إلى التدين عند غياب العلم و انتشار الجهل بالمعاني و المقاصد و الحكم فتفسد العلاقة مع عالم الشهادة و يعم الفساد .