Friday, 26 December 2014

الـمــنــاعــة


الــمــنـــــاعــــة
"مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى".
يقدم هذا الحديث الشريف أفقاً جديداً نستجلي من خلاله بعض الأدواء في جسم الأمة، حيث لا أمل في حياة رشيدة إلا بمعالجة تلك العلل و الأدواء و القضاء عليها.
فتشبيه النبي صلى الله عليه و سلم لكيان الأمة و جملة علاقاتها و أجهزتها و وظائفها بالجسد، يجعل من الضروري أن نعود إلى الأطباء للتعرف على ما تقرر عندهم من وظائف الأعضاء و عمل الأجهزة المختلفة في الجسم، ثم نعود بالتمثيل و التقريب لنرى كيف يمكن توظيف معرفتنا بجسم الإنسان و وظائف أعضائه في التعرف على طبيعة العلل الثقافية التي تصيب الأمة فيضطرب وجودها و يتعرض للأزمات.
يقرر الأطباء أن في جسم الإنسان جهاز مناعة يمكّـن الجسم من افراز المضادات الكافية للقضاء على الأثر الضار لأي مؤثر غريب يدخل الجسم، بحيث يتمكن الجسم في المستقبل من القضاء على هذا المؤثرعند الإصابة به أو التعرض له. و تصبح القدرة على المقاومة و الحماية من سمات  الجسم و خصائصه المتميزة. فالشفاء من الجدري يعني المناعة الدائمة. و كذلك الحصبة و جدري الماء و غيرها من الأمراض. و قد لا تدوم المناعة في بعض الحالات ولكن الجسم في كل مرة قادر على الدفاع و المقاومة.
فإذا انتقلنا إلى الطرف الآخر من التشبيه ، وجب أن يكون في الأمة جهاز للدفاع و المقاومة، بحيث تستطيع الأمة من خلال هذا الجهاز اكتشاف كل ما يخالف طبيعتها فتقاومه بما يبطل ضرره و يزيل أثره. فالأفكار و العادات و الأخلاق و الممارسات و غيرها من المؤثرات تدخل إلى جسم الأمة و تتفاعل معها و تعطي نتائجها. فالأمة الحية تستطيع أن تتعرف على هذه المؤثرات و تحدد منها ما يتعارض مع ثقافتها و هويتها و عقليتها و ما يميزها. و الأمة الحية كذلك لا تتكرر فيها الأحداث و المشكلات بنفس الشروط و المقدمات، لأن ذلك يعني أن جهاز الدفاع لم يعمل عمله و أن المناعة لم تكن شيئاً نستطيع الإطمئنان إليه عندما تكرر الحادث و أدى إلى النتائج نفسها بعد حدوثه أول مرة.  " و لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ". فالمفروض أن اللدغة الأولى علمت المؤمن و أرشدته إلى مواطن الخطر و مكامن الأذى، فاطمئنانه إلى الجحر و عدم التحرز منه يعني أن الخبرة المكتسبة من اللدغة الأولى لم تأخذ طريقها لتكون في البناء العقلي و النفسي الذي يستحضر الخبرات عند مواجهة أي ظرف مماثل مرة أخرى.
و حتى نتعرف على طبيعة عمل جهاز الدفاع الثقافي في الأمة أسرد القصة التالية :
في برنامج تلفزيوني عن الأمن الصناعي في بلد غربي، عرضت حادثة أدت إلى قطع أصبع أحد الذين يستعملون الكراسي القابلة للطي. و عند التحقيق في سبب الحادث تبين أن الطريقة التي صنع بها الكرسي عملت و كأنها شفرات مقص أدت إلى قطع أصبع. لم تقف القصة عند معالجة الرجل في المستشفى و التعويض عليه لفقد أصبعه، و لكن البرنامج نقل ما دار من حوار في إدارة الأمن الصناعي في ذلك البلد. لقد كان السؤال المطروح و الذي دار الحوار حول الإجابة عنه هو:
كيف نمنع حدوث هذه المأساة مرة أخرى ؟
تبع المناقشات جولة في الأسواق و استعراض جميع أنواع الكراسي لإختبار مدى خطورة استعمالها. و تبع ذلك أن سحبت من الأسواق أنواع الكراسي التي ثبت خطورة استعمالها. و تبع ذلك أن عرضت مصانع صناعة الكراسي نماذج من تصميم جديد لا تعرّض مستعمليها للخطر. و تأتي الخاتمة التي تضع الحد الفاصل لتكرر المأساة. لقد تم تعديل المواصفات الرسمية لصناعة الكراسي و أصبح لهذه الصناعة أعراف جديدة لا تجوز مخالفتها بقوة القانون.
و في ذلك المجتمع لا يمكن أن يتكرر حدوث جريمة بالطريقة ذاتها، و ذلك لأن دراسة طريقة تنفيذ الجريمة و دراسة الثغرات التي مكنت المجرم من تنفيذ جريمته، تعطي العاملين على أمن المجتمع أفكاراً جديدة لصياغة طرق و وسائل حماية الناس (و ذلك ليس على مستوى مدينة أو قطر بل على مستوى حضارة بأكملها).
و كذلك تجري دراسة ملابسات حوادث السير و اصطدام المركبات في الطرق لتحديد سبب الحوادث و إجراء التعديلات اللازمة على تصميم الطريق أو علامات التنبيه و الإنذار أو قوانين حدود السرعة و وسائل فرضها و ذلك لضمان عدم تكرار الحوادث.
و كذلك يجري التحقيق في حوادث الحريق أو الإنهيار لمبنى من المباني لمعرفة سبب الحادث و اقتراح الترتيبات الفنية و الإدارية التي تضمن عدم تكرره . و بعد ذلك تصبح هذه الإقتراحات جزءاً من قانون البناء و مواصفات قياس الجودة التي لا يجوز مخالفتها بقوة القانون.
فكل مظاهر النشاطات و فعاليات مؤسسات المجتمع تدل على أن جهاز المناعة فيه لم يتعطل. فالجسم الحي يرتكس بشكل يمنع حدوث الضرر عندما يتكرر حدوث المؤثر الخارجي. فالدروس المستخلصة من الحوادث دخلت في التركيب النفسي و العقلي لمؤسسات المجتمع و شكلت مناعة تمد الناس بالأمن و الثقة و الإستقرار.
فوجود المناعة الثقافية في أي مجتمع تجعل رد الفعل الطبيعي عند حدوث أي حادث أو خلل، سؤالاً مُلِحّاً يجب أن تجند للإجابة عنه كل الجدية و الإمكانيات الإدارية و الفنية المتوفرة، مع الإلتزام الكامل بقانون السببية و التأكد من العلاقة المنطقية المطردة بين الأسباب و النتائج :
كيف نمنع تكرر ما حدث ؟
فإذا أخذت الأمة هذا السؤال بما يستحق من الإهتمام تفادت تكرر المصائب فيها. و إن أهملته و تجاهلته أو تغاضت عنه فهو مرض نقص المناعة ( AIDS ) يضرب بنتائجه ثقافة الأمة و قدرتها على البقاء و يوردها موارد الخسارة و الهلاك.

Sunday, 23 November 2014

في زمان الفتنة


في زمـان الـفـتـنـــة
في زمان الفتن حيث يمعن أعداء الإسلام في محاولاتهم للتضليل و التشويه و يوظفون لأداء هذه المهمة القذرة من أتقن نبش القبور و إثارة ما عفى عليه الزمان من ثارات التناحر على النفوذ و المغانم في تاريخ المسلمين، يتوجب على كل مسلم غيور أن يعيد نظرته إلى التاريخ لضبط المرجعية و الهوية و التبرؤ من التجاوزات و المبالغات و الشذوذات.
في زمان الفتن يتوجب على كل مسلم أن يستحضر كليات القرآن و السنة و أن يتواصل مع أحداث السيرة النبوية و تاريخ الخلفاء الراشدين، فينكشف عوار التضليل و التشويه و يستشعر المسلم اعتزازه بدينه و قيمه و أنه صاحب رسالة إنقاذ و رحمة للعالمين. و لا يتسرب إليه الشعور بالدونية و الهوان أو الشعور بالذنب و الإثم و المسؤولية عما تقترفه أيدي الغلاة المجرمين.
و من هنا سأحاول تسجيل بعض ما جال في النفس و أنا أتفكر في محاولات التشويه و ما تثيره في النفس من تطلع إلى معاني القدوة و الأسوة في سيرة النبي الكريم و ما تؤصله من مبادئ و أصول.
-   " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة و كذلك يفعلون "
قررت ملكة سبأ هذه الحقيقة الإنسانية فيما تؤول إليه صراعات البشر على النفوذ و الجاه و السلطان. و أقر الله سبحانه هذه الحقيقة الواقعية بقوله " و كذلك يفعلون ". فالفساد يدخل على أهل القرى بتغيير ميزان الشرف و السيادة الذي تصنعه أعراف التكافل و التناصر و القربى، إلى ميزان آخر يعتمد القوة الغاشمة و التسلط بالقهر و العدوان.
-   عندما بعث الله سبحانة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و سلم بالرسالة الخاتمة، كذبت قريش و تعنتت و سلطت الأذى و الفتنة على المؤمنين حتى اضطروهم إلى الخروج من ديارهم. و لما هاجر النبي الكريم إلى المدينة كانت قريش تؤلب على النبي القبائل و تجمع و تحشد لتستأصل شأفة الدين الجديد و تقضي على أتباعه. و لكن الله تعالى أراد لهذا الدين أن يظهر و يكتمل، و توالت الأحداث حتى وصل النبي صلى الله عليه و سلم أطراف مكة بجيش عظيم  من المؤمنين استعداداً للفتح الكبير.
استعرض زعيم مكة أبو سفيان طرفاً من جيش المسلمين في طريقهم إلى مكة فالتفت إلى العباس و قال : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. فرد عله العباس قائلاً : إنها النبوة يا أبا سفيان.
وصل النبي صلى الله عليه و سلم إلى مكة فأرسل منادياً ينادي في أهل مكة : من دخل بيته فهو آمن، و من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. و في هذا الإعلان بيان واضح أن محمداً لن يدخل مكة دخول الملوك بل سيدخل دخول الأنبياء ليحطم الأوثان و لا يعبث بنظام السيادة و الشرف الذي تستقر به أحوال الناس فلا يتطرق إليها الفساد. لقد تعامل النبي صلى الله عليه و سلم مع نظام القبيلة و العشيرة بما يضمن سكون الناس و اطمئنانهم إلى أن الوضع الجديد لن يهدم منظومة السلم الأهلي الذي تعارفوا عليه. و أن الوضع الجديد يقر ما ثبت صلاحه فيهم و يهدم ما ثبت ضرره لهم. لقد أعلن النبي صلى الله عليه و سلم أن دماء و ثارات الجاهلية ليس لها اعتبار، و أن ربا الجاهلية ليس له اعتبار. و نادى في بني شيبة ليسلمهم مفاتيح الكعبة و يقول هذا يوم الوفاء، و ليفهم أهل مكة الذين عاندوا و كذبوا و استحقوا عقوبة الفاتح المنتصف أن محمداً لن يدخل دخول الملوك بل سيدخل دخول الأنبياء الذين لا يرتبط انتصارهم بالفساد و الإذلال لأهل الشرف و المكانة، فآمن أهل مكة جميعاً عندما أدركوا أن محمداً لا ينافسهم بل جاء لينقذهم من السفاهة التي تورطوا بها و يقر ما تعارفوا عليه محاسن العادات و مكارم الأخلاق.
لما دنا النبي صلى الله عليه و سلم من مكة و أدرك أهلها أن لا طاقة لهم بلقاء جيش المسلمين، لاذ بالفرار بعض من بالغوا في الأذى و الكيد للمسلمين لما توقعوه من العقوبة و الإنتقام لما كان منهم. و كان من بين هؤلاء سهيل بن عمرو و عكرمة بن أبي جهل. استأمنت زوجة سهيل و زوجة عكرمة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجيهما فأمنهما. و انطلقت المرأتان وراء زوجيهما لتشجيعهما على العودة و مقابلة النبي الكريم بعد ما أدركوا أن محمداً صنف آخر من الفاتحين لا يذل عنده عزيز.
   لما علم النبي صلى الله عليه و سلم بقدوم سهيل التفت إلى أصحابه ممن كان معه و قال : يأتيكم سهيل بن عمرو فلا يشدّنّ أحدُكم النظر إليه. لقد علّم النبي الكريم أصحابه أن نظرة محملقة متشفية تذكر بأضغان الماضي و حمية الجاهلية، قد تصد هذا الرجل الشريف في قومه عن الإيمان و تعين عليه الشيطان فتأخذه العزة بالإثم.
و لما علم النبي صلى الله عليه و سلم بقدوم عكرمة التفت إلى أصحابه ممن كان معه و قال : يأتيكم عكرمة بن أبي جهل فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي و لا يبلغ الميت. لقد علِم النبي الكريم أن مداخل الشيطان على ابن آدم متعددة متنوعة و قد يكون أحدها الإنتصار لشرف العائلة و كرامة الآباء و الأجداد. فنهى أصحابه عن سب طاغية من طواغيت الكفر لأن السب يهيج أحقاد الماضي و آلامه و لا يبني الوشائج و لا يفتح القلوب للإيمان.
لقد علـّم النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه أن المسلم ناظر أبداً إلى المستقبل بأمل و ثقة بالفطرة الإنسانية، و لا تستهلكه آلام الماضي و مظالمه، بل يتجاوزها و هو يعلم أن ما عند الله من الأجر للصابرين المحتسبين الذين ثبتوا على الإيمان و التزموا بمقتضياته أضعاف أضعاف ما يجده المتشفي من لذة الغلبة و الإنتصار. و علّم النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه أن المسلم حريص على أن لا يكون حاجزاً بين الناس و إقبالهم على الإيمان و لو بأدنى ما يُـتصور من الموانع و ما يحرّض على الصدود، و لو بكلمة عابرة أو نظرة يفهم اللبيب معناها و مغزاها و يكون نتيجتها الصد عن سبيل الله. فالمسلم يحزنه إعراض الناس عن الإيمان و هو دائم الإهتمام بما ينقذ الناس من غفلتهم كما قال سيد الخلق صلى الله عليه و سلم : إنكم تهافتون على النار تهافت الفَـراش و أنا آخذ بحُجُـزكم.
و بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم انساحت جيوش الفتح في بلاد الشام و العراق و مصر و خضعت شعوب البلاد المفتوحة لسلطان المسلمين. و تصرف الفاتحون العرب عند دخولهم الأمصار بوحي من دروس النبوة فلم يدخلوا على البلاد دخول الملوك بل دخلوا دخول ورثة الأنبياء. و يستغرب المرء أن الذين كتبوا تاريخ تلك الفترة من تاريخ الفتوح لم يلتفتوا إلى توثيق هذه الناحية المهمة من حياة الشعوب في المناطق المفتوحة و ما أدخل الفتح على حياتهم من تغيير. و كان اهتمامهم منصرفاً إلى تسجيل الإنتصارات العسكرية على جيوش الروم و الفرس، أما حياة الناس في المدن و الأمصار و القرى فلم تأخذ منهم ما تستحق من اهتمام، أو لعل استمرار الحياة و النظام الإجتماعي على ما كان عليه قبل الفتح لم يثر ما يستحق التسجيل و التدوين. و قد أشار المؤرخ " غوستاف لوبون " إلى هذه الحقيقة بقوله ( لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب ) و لكنه لم يتوسع في بيان هذه الرحمة و ارتباطها بنموذج النبوة و تأسي الفاتحين بها.
أما المؤرخ الأمريكي " لابيدوس " فقد ذكر في كتابه ( تاريخ المجتمعات الإسلامية ) بعض التفصيلات المهمة عن سياسة الخليفة عمر بن الخطاب في إدارة شعوب البلاد المفتوحة بما يلقي الضوء على سبب اليسر و السهولة و السرعة التي تميز بها انتشار الثقافة العربية و الدين الجديد بين أبناء الشعوب في المناطق المفتوحة.
ذكر " لابيدوس " أن سياسة عمر بن الخطاب كانت تتميز بالإبتعاد عن التدخل في شؤون سكان البلاد المفتوحة و خاصة في أمورهم الدينية و حياتهم الإقتصادية و الإجتماعية. فمنع توزيع الأراضي على الفاتحين و أبقاها في أيدي أصحابها من المزارعين. و أبقى على نظام جمع الضرائب بيد الدهاقين و أعوانهم من المساحين، و اكتفى باستبدل النسبة التي كان الفلاحون يدفعونها و التي كانت تبلغ نصف المحصول إلى الخراج أو العشر. و قد اختط عمر المدن الجديدة في الكوفة و البصرة و الفسطاط و غيرها لإستيعاب جنود الفتح لتأمين النقاء الديني و الثقافي و اللغوي لقبائل العرب المهاجرين، و للتقليل من مضايقة سكان البلاد في معايشهم و مساكنهم. و قد أصبحت هذه المدن الجديدة مراكز أشعاع حضاري و ثقافي و ديني جذبت سكان البلاد المفتوحة إليها، و اُنجزت عملية الإندماج الثقافي لسكان البلاد بشكل تدريجي و تعربت لغة الثقافة حتى تبوّأ كثير من الموالي (سكان البلاد المفتوحة) مراكز علمية مرموقة في المجتمعات الإسلامية عبر العصور.
لقد كان نموذج فتح النبوة هو النموذج الغالب في انطلاق جيوش الفتح في العصر الأول. و لكن مع مرور الوقت اتسم تغلب جيوش المسلمين بشيء من فساد الملوك بالقهر و الإذلال و الإكراه و خاصة عندما صار الإقتتال داخلياً و تناحراً جاهلياً على النفوذ و المغانم و السلطان. و سجل التاريخ صوراً من شناعات الفساد و التشفي و الإكراه لا تتصل مع نموذج النبوة بقرابة أو نسب.                و في زمن الفتنة حيث تكثر أصوات الذين يحصرون أنفسهم في صفحات سوداء من تاريخ الأمة و يترجمون ذلك جلداً للذات و شعوراً بالدونية و الهوان، استجابة لتصرفات خرقاء ممن يرفع شعارت و أسماء اسلامية بلا مضمون أو مصداقية أو مرجعية. و تظهر أصوات مشبوهة موتورة لتزعم أن هذه التصرفات الخرقاء هي ديدن المسلمين في تاريخهم الطويل في تعميم ظالم جاهل لتحقيق مآرب الفتنة في دفع المسلمين للتخلي عن الإعتزاز بدينهم و اعتباره أصل مشكلاتهم و معاناتهم.
لا بد من الكف عن جلد الذات أو استشعار الهوان و الدونية مما يصنع الغلاة المتنطعون المحسوبون على الإسلام. و أغلب الظن أن هؤلاء الغلاة متورطون في تنفيذ ما يريده أعداء الأمة بتوجيه منهم و إمداد بالسلاح و المال ( فمن ثمارهم تعرفونهم ).  و لا بد من التأكيد على أن المسلم الملتزم بنموذج النبوة ما يزال يمثل الأمل للإنسانية التي تعاني من تجبر النظام الدولي و ما يدخله على المجتمعات من الفساد و خلخلة النظام الإجتماعي و تعميق الفروق بين قلة من الأغنياء و جماهير عريضة متزايدة من الفقراء. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.

Thursday, 11 September 2014

من أين جاءت داعش ؟


من أين جاءت داعش – قل هو من عند أنفسكم –
في الوقت الذي يبدو فيه المتطرفون الإسلاميون من أتباع – داعش – و أمثالها قساة جفاة متعطشون لسفك الدماء، يؤرّق كل مسلم غيور سؤال ملحّ يتعلق بسبب هذه الظاهرة و خلفيات تلك المواقف المتعصبة المتعنتة.
و في البداية لا يستبعد المرء احتمال أن تكون هذه الزوبعة من تشويه صورة الإسلام و المسلمين حلقةً من حلقات الكيد للإسلام و أهله و الفتنة عن دين الله و رسالته الخاتمة التي تمثل الملاذ الأخير للبشرية للوقوف في وجه النظام العالمي الجديد الذي لا يقيم وزناً للبشر و أرواحهم و حقوقهم إذا انتموا إلى مجتمعات أو دول خارج إطار الثقافة الغربية المركزية و سيطرتها المطلقة. لا يستبعد المرء أن يكون كل ما يراه و يسمعه هو من تخطيط و تمويل و تسليح الأعداء المتربصين الذين يملكون الإمكانيات الهائلة للتجنيد و التمويه و التنظيم و الإخراج و توجيه الرأي العام، بحيث يبدو كل شيء طبيعياً و أن سياساتهم في التعامل مع التطلعات العادلة للشعوب المسلمة هي رد فعل منطقي بريء على تطرف المتطرفين و شذوذ المتعنتين.
لا يستبعد المرء هذا و لا يستطيع أن ينفيه بيقين، و لكن الوقوف عند هذا التفسير التآمري يؤدي إلى العطالة و استحكام اليأس و القنوط و هو بالإضافة إلى ذلك مخالفة للتوجيه القرآني في النظر إلى المشكلات. فبعد هزيمة المسلمين في أحد نزلت الآيات من سورة آل عمران للتعليق على أحداث المعركة و الإشارة إلى دروسها و عبرها. بدأت الآيات ببيان طبيعة العدو – لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم و ما تخفي صدورهم أكبر – و انتهت الآيات بتقرير المنهج في النظر و الإعتبار – أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم – فلا مطمع في أن يغير العدو من طبيعته في الكيد و دفع المؤمنين إلى ما يوقعهم في الحيرة و الإضطراب و الخبال. و لا فائدة في تمني أن يأتي الحل و الفرج ممن هذه صفته و خلقه و طبيعنه، و لكن الحكمة كل الحكمة و التدبير كل التدبير في محاسبة النفس و تدارك مواطن القصور و استكمال مواضع الخلل و معالجة الثغرات التي تشكل منطلقات التطرف و التي قد ينفذ منها العدو بخبث و ذكاء.
و من هذا المنطلق نظرت في قوله تعالى : " و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله " و تملكتني الدهشة و الإستغراب عندما وجدت أن معظم المفسرين يثبتون لهذه الآية معنى مقطوعاً عن السياق التاريخي للمواجهة مع كفار قريش، معنى يبرر التطرف و العدوان و يسيغ الإكراه غلى الدين و يفتح باباً واسعاً من الفتنة عن دين الله. أثبت المفسرون أن معنى الفتنة في الآية الكفر و الشرك، و أن معنى الدين في الآية الطاعة و الخضوع، و على هذا يكون معنى الآية أمر للمؤمنين بقتال الكافرين و المشركين – لمجرد كفرهم و شركهم – و حتى لا يكون هناك طاعة و خضوع إلا لله و شرعه.
و عند التفكير في هذا التأويل تبين لي فساده من عدة وجوه :
 - من القواعد القرآنية الحاكمة قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين , قد تبين الرشد من الغي )
و قد بين العلماء أن الله سبحانه لم يُجرِ أمر الإيمان على الإجبار و القسر و لكن على التمكين و الإختيار . و نحوه قوله تعالى ( و لو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً , أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) . و قد أشار الرازي في تفسيره إلى هذا المعنى بقوله : إنه لم يبق بعد ايضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان و يجبر عليه , و ذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار ابتلاء , إذ في القهر و الإكراه على الدين بطلان معنى الإبتلاء و الإمتحان .
و قال ابن عاشور في تفسيره : و نفي الإكراه خبر في معنى النهي , و المراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام . أي لا تكرهوا أحداً على اتباع الإسلام قسراً . و جيء بنفي الجنس لقصد العموم نصاً . و هي دليل على إبطال الإكراه على الدين بسائر انواعه , لأن أمر الإيمان يجري على الإستدلال و التمكين من النظر و الإختيار .
و الأصل أن يتعدى فعل أكره بالحرف ( على ) كما في قوله تعالى ( و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) . و في العدول عن حرف (على ) و استعمال الحرف ( في ) إشارة إلى أن الإكراه ليس من طبيعة الدين و لا من طريقته , لأن الدين استسلام و خضوع و التزام طوعي بما أمر الله به أو نهى عنه , فليس من الدين ما يتنافى مع الخضوع الطوعي و الإلتزام الذاتي من الإجبار و القسر و الإكراه و الذي يولد النفاق و التحايل .
فإذا امتنع الإجبار و الإكراه على أصل الدين و هو الإيمان , فامتناعه على ما دون ذلك من الآداب و المندوبات و الفضائل أولى و آكد . و عمل النبي صلى الله عليه و سلم يدل دلالة واضحة على منع الإكراه . فقد ثبت نهيه للأنصار الذين تنصر أو تهود بعض أبنائهم في الجاهلية أن يجبروهم على الإسلام . و لم ينقل عنه صلى الله عليه و سلم أنه أجبر أحداً على شيء من أمر الطاعات و العبادات إلا أن يكون متصرفاً بمقام القاضي في حكوماته بين المتنازعين . و لا أدلّ على التوجه إلى منع الإكراه في أمر الطاعات و العبادات من التعليق القرآني الذي نزل بعد الأمر بترك البيع عند النداء في صلاة الجمعة في حق أولئك الذين انصرفوا عن الصلاة إلى البيع في حضور النبي صلى الله عليه و سلم : ( و إذا رؤوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها و تركوك قائما , قل ما عند الله خير من اللهو و من التجارة و الله خير الرازقين ) . و لم يثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم زاد على ذلك شيئاً من تأديب أو تعزير .
 - و الأمر الآخر أن تأويل الفتنة في الآية بالكفر أو الشرك يؤدي إلى معارضة فاضحة لقضاء كوني أراده الله تعالى في بناء الكون و هو وجود الكفر إلى جانب الإيمان و الشرك إلى جانب التوحيد ليتم معنى الإبتلاء. فالأمر بإزالة الكفر و الشرك من الأرض يتعارض مع الإنكار الواضح الذي ورد في الآية التي أثبتت قضاء الله الكوني و ما أراد أن يمتحن عباده به بقوله : " و لو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين "
- إن تأويل الدين في الآية بمعنى الطاعة و الخضوع فيه معارضة واضحة للنهي عن الإكراه. فليس هناك إكراه أشد و أشنع من التهديد بالقتل. و الإلزام بالطاعة و الخضوع يتعارض كذلك مع القضاء الكوني الذي أراده الله تعالى لإمتحان عباده بأن مكّنهم من الإختيار و أقدرهم على المخالفة و العصيان. " فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر ".
 - و معنى الفتنة هو التعذيب و الإيذاء ,  و ذلك مثل قوله تعالى ( إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم و لهم عذاب الحريق ) . و يؤيد ذلك ما روي عن عروة ابن الزبير قال : كان المؤمنون في مبدأ الدعوة يفتنون عن دين الله، فافتتن من المسلمين بعضهم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم، فأصاب المؤمنين جهد شديد، فهذا هو المراد من الفتنة، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة. فالأمر بالقتال و الإذن به يعتمد على وجود مبرر القتال و هو رفع الفتنة و الإيذاء و التعذيب بسبب الإيمان و الإعتقاد .
- و الدين في سياق هذه الآية هو المحاسبة والمكافأة و الجزاء و مثله قوله تعالى " مالك يوم الدين " فحرية الرأي و حرية الإعتقاد مطلب إنساني لا بد من حمايته , فالجزاء و المكافأة على الكفر أو الإيمان هو من شأن الله تعالى يحاسب عباده و يجازيهم على إيمانهم أو كفرهم في الآخرة , و ليس هذا من شأن العبيد. و إن مما يؤكد هذا المعنى للدين في سياق الآية، أن الآية تكررت في سورة الأنفال بزيادة " و يكون الدين كله لله ". و قد نزلت آية سورة الأنفال بعد النصر الذي منحه الله تعالى للمؤمنين في معركة بدر، فيكون معنى الزيادة " كله " تنبيه للمؤمنين أن لا يحسبوا أن ما مكنهم الله منه في بدر هو جزاء لكفار قريش على ما كان منهم من عناد وشقاق. فالجزاء على الكفر و الإيمان كله لله. و يكون معنى الآية في سورة الأنفال مطابقاً لقوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه و سلم " ليس لك من الأمر شيء، إما يعذبهم و إما يتوب عليهم فإنهم ظالمون ". 
فتأويل الآية " و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة " بهذا الوجه لا يزيل التعارض مع آية ( لا إكراه في الدين ), أو التعارض مع القضاء الكوني في الإبتلاء بوجود الكفر و الإبتلاء بحرية الإختيار فحسب، بل يجعل الآية مما يؤكد منع الإكراه و الإيذاء بسبب الإيمان، و يجعل رفع الفتنة هو السبب المقبول لمباشرة القتال، مما يتوافق مع مقاصد الدين و يضع رسالة الإسلام – كما أرادها الله سبحانه – رسالة تحريرية للإنسان بحماية أخص ما يميز إنسانيته و المتمثل في حرية الفكر و الإعتقاد.
و كذلك، لا بد من وضع مسألة الردة عن الدين في إطار منع الإكراه , فالتهديد بالقتل هو الإكراه الذي يجب رفعه و منعه. و لذلك ذهب المحققون من العلماء إلى أن الحكم بقتل المرتد ليس بسبب الكفر بل بسبب الإنحياز للعدو المحارب، و هو المعنى المقصود في الحديث النبوي ( التارك لدينه المفارق للجماعة ). فإذا سلمت الردة عن معنى الخيانة والإنحياز للعدو المحارب(مفارقة الجماعة) و التي تشكّل جريمة سياسية يعاقب عليها القانون في كل الدول, فليس للردة من عقوبة في الدنيا غير ما يترتب على الكفر من أحكام فردية تتعلق بالآخرين مثل أحكام الزواج و الإرث و الذبائح و غيرها .
إنه لا بد من المراجعة الجادة لكثير من القضايا الشائكة التي دونها علماء السلف مستريحين لما كان ينعم به المسلمون من أمن و منعة و غلبة فلم ينتبهوا إلى تحرير المسائل التي كان الواقع العملي للمسلمين في مجتمعاتهم يؤصل فيها السماحة و التسامح و حرية الإعتقاد و العبادة. فلما قضى الله أن تكون الدُولة لغير المسلمين – و تلك الأيام نداولها بين الناس -  ظهر عوار تلك الآراء و بدا أنها تند عن خصائص الشريعة و كليات القرآن، و تفقد المسلمين الفهم لرسالتهم الإنقاذية الإنسانية، و تسمح للمعتوهين من المتشددين و الغلاة أن يقدموا نموذجاً من السلوك الهمجي يحسب على الإسلام.